كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل، فإن قيل لنا: أفيموت! قلنا لا بل يتوب ويأكل.
فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس، ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى والندم عليه جاءتك مراداتك.
- والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه.
- ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها. فإن القنوع في حالة الأرذال.
فكن رجلاً رجله في الثّرى ... وهامة همّته في الثريّا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل.
وما قعد من قعد بالا لدناءة الهمة وخساستها.
واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتهب. ولا تخلد إلى كسل.
فما فات ما فات إلا بالكسل. ولا نال من نال إلا بالجد والعزم.
وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور
- وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه.
وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت.
على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط، فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى
- من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل؟ فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط ويقال لك ابق بما اخترت، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له، لم يزل في نزول.
وكان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب: أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغير اسمك.
فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر.
فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي؟ وما كلب إلا إسم حسن. فأكل، وهكذا الخسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل.
فالله الله في حريق الهوى إذا ثار وانظر كيف تطفئه.
فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على الحقيقة.
فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم والسلام.
- فواأسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم، ولمثخن بالجراح وما عنده من نفسه خبر.
ولمتقلب في عقوبات ما يدري بها، ولعمري أن أعظم العقوبة أن لا يدري بالعقوبة.
فواعجبا للمغالط نفسه، يرضي نفسه بشهوة ثم يرضي ربه بطاعة، ويقول حسنة، وسيئة.
ويحك من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين.
رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارط لا يستدرك.
- فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.
- رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت وما يتضمنها من الآفات.
وبيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة وسلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوبة فإن لم يقصد هو الشر حصل من عماله.
ثم هو خائف منزعج في كل أموره حذر من عدو أن يسيئه، قلق ممن هو فوقه أن يعزله، ومن نظير أن يكيده.
ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم، وتنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة.
وإن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة.
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها.
وإن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علو السن وذهاب زمان اللذة.
كما حكي أن رجلاً من الرؤساء كان حال شبيبته فقيراً، فلما كبر استغنى وملك أموالاً واشترى عبيداً من الترك وغيرهم وجواري من الروم فقال هذه الأبيات في شرح حاله.
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا
وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا
يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تعقد من أطرافها لينا
يردن إحياء ميت لا حراك به ... وكيف يحيين ميتاً صار مدفونا
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا ... فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
¥