تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن خفَّ كان سحابًا، وإن ثقل كان غيثًا ثجَّاجًا، وإن سخن كان بخارًا، وإن برد كان ندًى وثلجًا وبردًا، تجري به الجداول والأنهار، وتتفجَّر منه العيون والآبار، وتختزنه تجاويف الأرض والبحار، ومع هذا كله فإنَّ حديثنا اليوم عن نوع ماء لا كالمياه كلها، إنه سيد المياه وأشرفها، وأجلّها وأغلاها، هو هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل، إنه من الآيات البيِّنات في حرم الله الآمن، ومن أعظم المنافع المشهودة فيه، إنه الماء المبارَك، ظهر في أطْهر بُقعة مبارَكة، إنه ماء زمزم، ولِزمزم بداية فلنبدأ بها:

فيوم أن جاء إبراهيم الخليل بزوجه هاجر وابنها إسماعيل، وتركهما فوق دوحة عند البيت، وليس بمكة يومئذٍ حياةٌ ولا ماء ولا نبات، فلما اشتَدَّ الكرب على هاجر، وابنُها يتلوَّى كأنه ينشغ للموت، سعتْ بين الصفا والمروة سعي الإنسان المجهود، فسمعتْ صوتًا، فإذا هي بجبرائيل، فضرب برجْله الأرض فنبع الماء، فجعلت تحوضه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكان عينًا معينًا))؛ رواه البخاري؛ أي: لكان الماء ظاهرًا، ولم يزل زمزم نهلاً عذبًا للواردين، حتى وَلِيَت جُرْهُم أمر البيت، وطالت ولايتهم، فاستخفُّوا بحُرْمة البيت، واستحلُّوا الحرم، وظلموا مَن يدخل إليه، فسلَّط الله عليهم خزاعة، فأخرجتْهم من الحرم، فلم ينفلت منهم إلا الشَّريد، ودفنت جرهم بئر زمزم لما نفيت من مكة، فلم تزل زمزم عافية دارسة آثارها حتى آن مولد النبي المبارك - صلى الله عليه وسلم - الذي تفجَّر من بنانه ينابيع الماء، وهو صاحب الكوثر والحوض الروَّاء.

فلما آن ظهوره أذن الله لسقيا أبيه أن تظهر، ولِمَا دُفن من مائها أن تجتهر، فرُفعت عن زمزم الحجب، برؤيا منام رآها عبدالمطلب، فأُمر بحفرها، وعُلِّمت له بعلامات استبانَ بها موضع زمزم فحفرها، فلم تزل إلى يومكم هذا منهلاً عذبًا، وموردًا صافيًا، وسيبقى كذلك لا يفنى على كثْرة الاستقاء، فإنها لا تنزف ولا تُذَمّ، بل تبقى عند بيت المعظَّم، تسقي الحجيج الأعظم، وفي بعض الآثار أن المياه العذبة على وجه الأرض تغور وتنضب وتذهب قبل يوم القيامة غير ماء زمزم.

عباد الله:

ولما كان زمزم خيرَ ماء على وجه الأرض، خص بأسماءٍ كثيرة، وكثرة الأوصاف والأسماء دليلٌ على عِظَمِ شأن المسمَّى، يدل على ذلك قول الشاعر:

وَاعْلَمْ بِأَنَّ كَثْرَةَ الأَسَامِي دَلاَلَةٌ أَنَّ المُسَمَّى سَامِي

وقد ذكر الزبيدي في "تاج العروس من جواهر القاموس": أنه جمع أسماءها، فجاءت على ما ينيف على ستين اسمًا، مما استخرجها من كُتُب الحديث واللغة، ونظم الأديب البرهان القيراطي - رحمه الله - جُملة من أسماء زمزم؛ فقال:

لِزَمْزَمٍ أَسْمَاءُ مِنْهَا زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَا مَنْ يَسْقَمُ

سُقْيَا نَبِيِّ اللهِ إِسْمَاعِيلاَ مَرْوِيَّةٌ هَزْمَةُ جِبْرَائِيلاَ

مُغْذِيَةٌ عَافِيَةٌ وَكَافِيَهْ سَالِمَةٌ وَعِصْمَةٌ وَصَافِيَهْ

سَيِّدَةٌ وَعَوْنَةٌ قَدْ دُعِيَتْ شَبَّاعَةُ العِيَالِ قِدْمًا سُمِّيَتْ

وذكر أصحاب السير من جملة أسماء سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة أسماء، تعود نسبتها إلى زَمْزم، فهو النبي الزمزمي والمزمزم، فقد غُسِل قلبه الشريف أربع مرات بماء زمزم كما في السِّيَر، فكان قلبُه - صلوات الله وسلامه عليه - خير القلوب وأزكاها، وأتقاها وأنْقاها.

أيها الناس:

قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، قال علماء التفسير: ومن الآيات البينات فيه الحجر الأسود، والحطيم، وانفجار ماء زمزم بعقب جبريل - عليه السلام - وأن شربه شفاء للأسقام، وغذاء للأجسام؛ بحيث يغني عن الماء والطعام، وأيضًا فزمزم أولى الثمرات التي أعطاها الله إبراهيم الخليل حين دعا بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126]، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء السقم))؛ رواه الطبراني، وابن حبان، كيف لا يكون خير ماء وقد نبع

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير