شربته لتستشفي به شفاك الله، وإن شربته ليشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئِك قطعه الله)).
ولما علِم عبدالله بن عباس بهذا الأمر كان إذا شرب من زمزم قال: "اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كل داء"، وتواترت الأنباء والأخبار عن أولئك الذين تداووا بزمزم من شتَّى الأمراض بأنواعها، فكانت زمزم علاجًا ناجعًا، كمَن شربه لعمى به فأبصر، أو لفالج فعُوفي، أو لعقدة في لسانه فانحلَّت، وفي زماننا تداوى به ناس من السرطان فشفوا، وأخبار المستشفين بماء زمزم أكثر من أن تُحصَى، ولو أنها سُرِدت لطال المقام، قال الإمام زكريا القزويني: "وماء زمزم صالح لجميع الأمراض المتفاوِتة، قالوا: لو جمع جميع من داواه الأطباء لا يكون شطرًا ممن عافاه الله بشرب ماء زمزم"، ومما يستشهد به على هذا ما رواه البخاري في تاريخه، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها حملت زمزم في القوارير، وقالت: حمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأداوي والقرب، فكان يصب على المرضى ويسقيهم.
ولا يعجلن سامع هذه الأخبار فيحكم باستبعادها وإنكارها وليقوِّي إيمانه بالله، فهذا الاستشفاء موجود وحاصل إلى يوم القيامة، لِمَن صلحت نيته، وسلمتْ طريقته، ولم يكن به مكذبًا، ولم يشربه مجربًا، فإن الله مع المتوكِّلين، وهو يفضح المجربين، ويختص زمزم في أنه نافع للحمى، خافض لحرارته، دافع لشدَّتِه؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الحمى من فيح جهنم، فابْرُدوها بماء زمزم))؛ رواه البخاري، واللفظ لأحمد.
أيها المؤمنون:
ولزمزم مزيةٌ أخرى، تنفرد بها عن كلِّ ما تعلمون وتدركون من المزايا؛ ففي حديث جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ماء زمزم لما شُرب له))؛ رواه ابن ماجه، وأحمد، وصحَّحه الألباني، والمعنى - عباد الله -: أن زمزم ينفع لما شُرب له، لأنه سقيا الله وغياثه لولد خليله، فبقي غياثًا لِمن بعده، فمَن شربه بإخلاص وجَدَ الغوث، وهذا جارٍ للعباد على قدر صدقهم وإخلاصهم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما شرب له))، مِن صيغ العموم؛ فتَعُمّ أيَّة حاجةٍ دنيوية أو أخروية، فلتستحضر في قلبك عند شربك ماء زمزم نيةً صالحةً من خيري الدنيا والآخرة، وقد شرِبه ثلةٌ من العلماء والعبَّاد لأجل نياتٍ صالحة فتحقَّقت لهم، فلقد شربه أبو حنيفة - رحمه الله - للعلم والفقاهة فكان كذلك، وناهيك به علْمًا وصلاحًا وفضلاً، ووقف عبدالله بن المبارك بعد أن شرب زمزم واستقبل القبلة، وقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدَّثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له))، وها أنا ذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شربه، واشتهر عن الشافعي أنه شرب ماء زمزم للرَّمْي، فكان يصيب من كل عشرة تسعة، وشربه للعلم، فهو من العلم بمكان، وللجنة فيرجى له ما طلب، وكان والد الإمام المُقرئ محمد بن محمد بن محمد الجزري تاجرًا، ومكث أربعين سنة لم يُرزَق ولدًا، فحجَّ وشرب ماء زمزم بنيَّة أن يرزقه الله ولدًا عالمًا، فوُلِد له محمد في رمضان المقبل بعد التراويح، فزمزم من الطب النبوي، واعلموا أن طبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - متيقن البرء، لصُدُوره عن الوحي، وقد يتخلَّف الشفاء عند البعض لمانع قام بمستعمله، من نحو ضعف اعتقاد الشفاء به، ونحوه من الموانع.
وآية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم، فالتضلع منه علامة إيمان، وبراءة من النفاق، وقد تعاين أناسًا يفضلون على زمزم ما يسمونه مياهً صحيَّةً، فليحذر هؤلاء الذين حرموا أنفسهم خيرًا كثيرًا، وليراجعوا إيمانهم بما صح، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن زمزم وفضلها، وقد عانى من أمثال هؤلاء المفسر ابن علان الدمشقي فقال:
وَزَمْزَمُ قَالُوا: فِيهِ بَعْضُ مُلُوحَةٍ وَمِنْهُ مِيَاهُ العَيْنِ أَحْلَى وَأَمْلَحُ
فَقُلْتُ لَهُمْ: قَلْبِي يَرَاهَا مَلاَحَةً فَلاَ بَرِحَتْ تَحْلُو لِقَلْبِي وَتَمْلُحُ
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حَمْدًا كثِيرًا كما أَمَر، والصلاةُ والسلام على سيِّد البَشَر، الشافعِ المشفَّع في المحشَر، وعلى آله وصحابته السادة الغرر، وعلى مَن سار على نَهْجهم واقتفى الأثر.
أما بعدُ:
فزمزم شراب الأبرار، وهو أفضل التُّحَف والقِرَى، ولا بأس من حمله إلى الأماكن البعيدة؛ لفِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ذلك، وسقاية الناس ماء زمزم عمل صالح؛ كما وَصَفَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رأى بني عبدالمطب يسقون الناس على زَمْزم، فقال لهم: ((اعملوا فإنكم على عَمَل صالح، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم))؛ رواه البخاري، وتقديم المسافرين في السقاية أولى من جيران الحرم، وذلك عند الازْدحام، لضعْف ابن السبيل بالاغتراب، ولا بأس بالوضوء والاغتسال بماء زمزم، وصبِّه على سائر البدن تبرُّكًا به.
وَصَلَّى بِأَرْكَانِ المُقَامِ حَجِيجُنَا وَفِي زَمْزَمٍ مَاءٌ طَهُورٌ وَرَدْنَاهُ
وَفِيهِ الشِّفَا فِيهِ بُلُوغُ مُرَادِنَا لِمَا نَحْنُ نَنْوِيهِ إِذَا مَا شَرِبْنَاهُ
وبعدُ أيها المسلمون:
فهذه زمزم، وهذه بعض مآثرها ومنافعها وفضائلها، فانهلوا منها ما اسْتَطَعْتُم، وأدركوا مِن رحيقها ما تمكَّنْتم، فمذاق زمزم كمذاق الشهد المُصَفَّى، يحلو ويعلو كلما عاد المرء لتذوقه.
شَفَيْتِ يَا زَمْزَمُ دَاءَ السَّقِيمْ فَأَنْتِ أَصْفَى مَا تَعَاطَى الحَكِيمْ
وَكَمْ رَضِيعٍ لَكِ أَشْوَاقُهُ إِلَيْكِ بَعْدَ الشَّيْبِ مِثْلُ الفَطِيمْ
ثم صلوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشريَّة.
http://www.alukah.net/articles/1/6916.aspx
¥