فصل في التعجيل بالتوبة والندم واستدراك ما فات واغتنام ما بقي من العمر
فانتبه يا بني لنفسك واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين، ما دام في الوقت سَعةٌ، واسقِ غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعاتك التي ضاعت، فكفى بها عظة، ذهبَتْ لذةُ الكسل فيها، وفاتت مراتبُ الفضائل، وقد كان السلف رحمهم الله يحبون جمعَ كل فضيلة، ويبكون على فوات واحدة منها.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دخلنا على عابدٍ مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: ما اغبرّتا في سبيل الله تعالى؛ وبكى ءاخر فقيل له: ما يبكيك؟ قال: على يومٍ مضى ما صمته، وعلى ليلة ذهبَت ما قمتها.
واعلم يا بني أن الأيام تبسُطُ ساعاتٍ، والساعاتُ تبسُط أنفاسًا، وكلُ نفَسٍ خزانة، فاحذر أن تُذهِبَ نفسًا في غير شيء، فترى يوم القيامة خزانةً فارغة فتندم.
وقد قال رجل لعامر بن عبد قيس: قف أكلمُك! فقال: أمسِكِ الشمسَ.
وقعد قومٌ عند معروف [الكرخي] رحمه الله، فقال: أما تريدون أن تقوموا، فإن ملَكَ الشمس يجرُّها لا يفتُر.
وفي الحديث: " من قال سبحان الله وبحمده غُرسَت له نخلةٌ في الجنة " فانظر إلى مضيِّعِ الساعات كم يفوته من النخل.
وقد كان السلف يغتنمون اللحظات، فكان كَهْمَسُ [بن الحسن التميمي] يختم القرءان في كل يومٍ وليلةٍ ثلاث مرات، وكان أربعون رجلاً من السلف يصلون الفجر بوضوء العشاء، وكانت رابعةُ لا تنام الليل، فإذا طلع الفجر هجعَتْ هجعةً خفيفة وقامت فزِعَةً وقالت لنفسها: النوم في القبور طويل.
فصل في أن الحياة الدنيا قصيرة يجب اغتنامها
ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجَد، رأى مدة طويلة، فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج رأى مدة قصيرة، وعلِم أن اللُبثَ في القبور طويل، فإذا تفكر في يوم القيامة، علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة أو النار علم أنه لا نهاية له، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا ـ فرضنا ستين سنة مثلاً ـ فإنه يَمضي منها ثلاثون في النوم، ونحوٌ من خمس عشر في الصِبا، فإذا حسبتَ الباقي، كان أكثرُه في الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرًا، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟!
فصل في نقض اليأس والقنوط، والإقبال على الجد والعمل
ولا يؤيسك من الخير ما مضى من التفريط، فإنه قد انتبه خلق كثير بعد الغفلة والرقاد الطويل، فقد حدثني الشيخ أبو حكيم عن قاضي القضاة أبي الحسن [علي بن محمد] الدامَغاني رحمه الله، قال: كنتُ في صبوتي متشاغلاً بالبطالة غيرَ ملتفتٍ إلى العلم، فأحضرني أبو عبد الله [محمد بن علي الدامغاني] رحمه الله، وقال لي: يا بني إني لست أبقى لك أبدًا، فخذ عشرين دينارًا وافتح دكانَ خبازٍ وتكسَّبْ! فقلتُ: ما هذا الكلام؟! قال: فافتح دكان بزّاز! فقلت: تقول هذا وأنا ابن قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني! قال: فما أراك تحب العلم! فقلت: اذكر لي الدرس َ الساعة، فذكر لي، فأقبلتُ على التشاغل بالعلم واجتهدتُ ففتح الله علي.
وحكى لي بعض أصحاب أبي محمد [عبدِ الرحمن بن محمد] الحلواني رحمه الله، قال: مات أبي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، وكنتُ موصوفًا بالبطالة، فأتيتُ أتقاضى بعضَ سكان دارٍ قد ورثتُها، فسمعتهم يقولون: قد جاء المدبَّرُ ـ أي الربيط ـ (1) فقلت لنفسي: يقال عني هذا! فجئت إلى والدتي فقلت: إذا أردتِ طلبي فاطلبيني من مسجد الشيخ أبي الخطاب، ولازمتهُ فما خرجتُ إلا إلى القضاء، فصرتُ قاضيًا مدة.
قلت: ورأيته أنا وهو يفتي ويناظر.
فألزِم نفسَك يا بني الانتباهَ عند طلوع الفجر، ولا تتحدث بحديث الدنيا، فقد كان السلف الصالح رحمهم الله لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيءٍ من أمور الدنيا.
وقل عند انتباهك من النوم: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرءوف رحيم "
ثم قم إلى الطهارة واركع سنة الفجر واخرج إلى المسجد خاشعًا، وقل في طريقك: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبممشاي هذا إليك، إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعة، خرجتُ اتقاءَ سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تجيرني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".
واقصد الصلاة إلى يمين الإمام، فإذا فرغت من الصلاة فقل: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " عشر مرات.
ثم سبّح عشرًا، واحمد عشرًا، وكبّر عشرًا، واقرأ ءاية الكرسي وسلِ اللهَ سبحانه قبول الصلاة، فإن صح لك فاجلس ذاكرًا لله تعالى إلى أن تطلع الشمس وترتفع، ثم صل واركع ما كتب لك وإن كان ثمانِ ركعات فهو حسن.
¥