وخرجوا ".
ورؤي سفيان الثوري رحمه الله في المنام فقيل له: ما فعل الله تعالى بك؟ قال: ما كان إلا أن وُضِعتُ في اللحد فإذا أنا بين يدي رب العالمين، فأُمِرَ بي إلى الجنة، فدخلتُ فإذا أنا بقائلٍ يقول: سفيان؟ قلت: سفيان، قال: تذكرُ يومَ ءاثرتَ اللهَ تعالى على هواك؟ قلت: نعم! فأخذَتني صواني النِثارِ من الجنة.
فصل في الجمع بين العلم والعمل
وينبغي أن تسمو همتك إلى الكمال، فإن خلْقًا وقفوا مع الزهد، وخلْقًا تشاغلوا بالعلم، وندر أقوامٌ جمعوا بين العلم الكامل والعمل الكامل. واعلم أني قد تصفحتُ التابعين ومَن بعدَهم فما رأيت أحظى بالكمال من أربع أنفس: سعيد بن المسيب، وسفيان الثوري، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل؛ وقد كانوا رجالاً إنما كانت لهم هممٌ ضعُفَت عندنا، وقد كان في السلف خلقٌ كثير لهم همم عالية، فإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم فانظر في كتاب " صفة الصفوة "، وإن شئت " أخبار سعيد " و " أخبار سفيان " و " أخبار أحمد بن حنبل "، فقد جمعتُ لكل واحدٍ منهم كتابًا.
فصل في فضل الحفظ والصدق
وقد علمتَ يا بني أنني قد صنفتُ مائة كتاب، فمنها " التفسير الكبير " عشرون مجلدًا، و " التاريخ " عشرون مجلدًا، و " تهذيب المسند " عشرون مجلدًا، وباقي الكتب بين كبار وصغار يكون خمسَ مجلدات، ومجلدين وثلاثة، وأربعة، وأقل وأكثر؛ كفيتُك بهذه التصانيف عن استعارة الكتب وجمع الهمم في التأليف. فعليك بالحفظ، فإن الحفظَ رأسُ المال، والتصرفَ رِبحٌ، واصدُقْ في الحالين في الالتجاء إلى الله سبحانه، فراعِ حدودَه، قال الله تعالى: (إن تنصروا الله ينصرْكم) [سورة محمد / 7] (فاذكروني أذكرْكم) [سورة البقرة / 152]، (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم) [سورة البقرة / 140].
فصل في أن البركة والنفع مقرون بالعمل بالعلم
وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به، فإن الداخلين على الأمراء والمقبلين على أهل الدنيا، قد أعرضوا عن العمل بالعلم، فمُنعوا البركةَ والنفعَ به.
فصل في النية الصالحة مع العمل بعلم
وإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علم، فإن خلقًا من المتزهدين والمتصوفة ضلوا طريق الهدى إذ عملوا بغير علم.
واستر نفسك بثوبين جميلين، لا يُشهِرانِكَ بين أهل الدنيا برِفعتِهما، ولا بين المتزهدين بضِعَتِهِما، وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة، فإنك مسؤول عن ذلك، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفعُ السامعون، ومتى لم يعملِ الواعظُ بعلمِه زلَّتْ موعظتُه عن القلوب كما يزلُّ الماءُ عن الحجر؛ فلا تعظنَّ إلا بنية، ولا تمشينَّ إلا بنية، ولا تأكلنَّ إلا بنية، ومع مطالعات أخلاق السلف ينكشفُ لك الأمر.
فصل في كتب مفيدة
وعليك بكتاب " منهاج المريدين " فإنه يعلمك السلوك، فاجعله جليسَك ومعلمك، وتلمَّح كتاب " صيد الخاطر " فإنك تقعُ بواقعاتٍ تُصلِحُ أمرَ دينك ودنياك، واحفظ كتاب " جنة النظر " فإنه يكفي في تلقيح فهمِك للفقه، ومتى تشاغلتَ بكتاب " الحدائق " أطلَعَك على جمهور الحديث، وإذا التفتَّ إلى كتاب " الكشف " أبان لك مستورَ ما في الصحيحين من الحديث، ولا تشاغلَنَّ بكتب التفاسير التي صنفَتها الأعاجمُ، وما ترك " المغني " و " زاد المسير " حاجةً إلى شيء من التفاسير، وأما ما جمعتُه لك من كتب الوعظ فلا حاجة بعدها إلى زيادة أصلاً.
فصل في المداراة والحلم
وكن حسَنَ المداراة للخلق، معَ شدة الاعتزال عنهم، فإن العزلة راحة من خُلَطاء السوء، ومُبقِيَةٌ للوقار، فإن الواعظ خاصةً ينبغي أن لا يُرى مُتَبَذَِلاً، ولا ماشيًا في سوقٍ ولا ضاحكًا، ليَحسُنَ الظنُ به، فيُنتَفَعُ بوعظه.
فإذا اضطررتَ إلى مخالطة الناس فخالطهم بالحِلمِ عنهم، فإنك إن كشفتَ عن أخلاقهم لم تقدر على مداراتهم.
فصل في الحفاظ على الحقوق ومراعاة عواقب الأمور
وأدِّ إلى كل ذي حق حقه، من زوجة أو ولد أو قرابة، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تُودِعْها إلا أشرفَ ما يمكن، ولا تهمل نفسك وعوِّدها أشرفَ ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه، كما قيل:
يا من بدنياه اشتغل ـ ـ ـ وغرّه طول الأمل
الموت يأتي بغتةً ـ ـ ـ والقبر صندوق العمل
وراعِ عواقبَ الأمور يهُنْ عليك الصبرُ عن كل ما تشتهي وما تكره، وإن وجدتَ من نفسك غفلة فاحملها إلى المقابر وذكِّرها قربَ الرحيل، ودبِّر أمرك ـ واللهُ المدبرُ ـ في إنفاقك من غير تبذير، لئلا تحتاج إلى الناس، فإن حِفظَ المال من الدين، ولإن تُخَلِّفَ لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس.
فصل في فضل شرف نسب المؤلف
يا بني واعلم أننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبونا القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه، وأخباره موثقة في كتاب " صفة الصفوة "، ثم تشاغلَ سلفنا بالتجارة والبيع والشراء، فما كان من المتأخرين مَن رُزِقَ همةً في طلب العلم غيري، وقد ءال الأمر إليك، فاجتهد أن لا تخيّب ظني فيما رجوتُه فيك ولك.
وقد أسلمتك إلى الله سبحانه، وإياه أسأل أن يوفقك للعلم والعمل، وهذا قدر اجتهادي في وصيتي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه
¥