تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبما ذكرنا تعلم أن الحديث الصحيح المصرح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر، محمول على من أقبل على الشعر، واشتغل به عن الذكر، وتلاوة القرآن، وطاعة الله تعالى، وعلى الشعر القبيح المتضمن للكذب، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيات ونحو ذلك. (انظر أضواء البيان عند تفسير قوله تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون_)

ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يردد أحيانا بعض أبيات الشعر معجبا بها، كقوله:أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل. (متفق عليه) وقال،: إن من الشعر لحكمة (ابن ماجه بسند صحيح)

وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر عن مطر الوراق عن مطرف بن عبد الله بن شخير قال صحبت عمران بن الحصين من البصرة إلى مكة فكان ينشد في كل يوم ثم قال لي إن الشعر كلام وإن من الكلام حقا وباطلا

وما أحسن قول الماوردي: الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطرارا لم يكن جرحا أو اختيارا جرح (روح المعاني للألوسي)

فإذا عرفنا أن الشعر كالكلام فإنه يمكن أن يبتهل به أحدنا إلى الله أو يدعو به سواء في صلاته أو خارجها، وإنما تركه السلف لما عرف من التكلف في الشعر والمبالغة فيه لربما يكون مستعمله في الدعاء معتديا.

ويمكن القول:إن الدعاء بالشعر على وجهين:

أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، فيأتي به الداعي على السجية، فهذا الذي يتأثر به المنشد والسامع، وعلى هذا المحمل تحمل تلك الأخبار التي وردت في استعمال بعض السلف الأشعار في مناجاتهم ودعائهم واستغاثاتهم،

فعن البراء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه يقول

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا

يرفع بها صوته أبينا أبينا. متفق عليه

وفي سنن النسائي بسند صحيح عن سلمة بن الأكوع قال: لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكوا فيه رجل مات بسلاحه قال سلمة فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر فقلت يا رسول الله أتأذن لي أن أرتجز بك فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اعلم ما تقول فقلت والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا فلما قضيت رجزي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال هذا قلت أخي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمه الله فقلت يا رسول الله والله إن ناسا ليهابون الصلاة عليه يقولون رجل مات بسلاحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مات جاهدا مجاهدا قال بن شهاب ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك غير أنه قال حين قلت إن ناسا ليهابون الصلاة عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوا مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين وأشار بأصبعيه

وفي الحديث المتفق عليه عن أنس قال جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب وهم يقولون

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا

يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة

الوجه الثاني: ما كان فيه نوع تكلف وتصنع وربما بعض تمرن مع إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة فهذا هو المذموم فاعله، بل إن الدعاء بهذا نثرا لا يجوز ولو كان بدعاء من القرآن والسنة

ولهذا قلت: لما كان الغالب على الشعر الوجه الثاني لم يصل إلينا –على حد اطلاعي- أن السلف كانون يدعون أو يقنتون بالأشعار، لكن هذا لا يمنع أحدهم إذا استحضر معنى فيه حلاوة مناجاة ربه ساقه في بيت أو أبيات من الشعر رقراقة تزيد من قوة الخشوع ومتانة الاستحضار، فقد أورد ابن كثير في البداية والنهاية قوله (11/ 292): (ومنها قوله: يا من ألوذ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان يكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى.

وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو لله بما تضمناه من الذل والخضوع) فلا شك أن شيخ الإسلام هنا استحضر معنى قدرة الله في هذين البيتين فناجى بهما ربه عز وجل، مع أن مراد ناظمهما على غير هذا المعنى الذي أراده شيخ الإسلام رحمه الله. اهـ.والله أعلم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير