فرغ عبد الرحمن نفسه لمجالس جده , وجعل نفسه الخادم الوفي , ورأى أنها خير مدرسة , ولذلك لم يسافر لجمع الشهادات والمناصب , وإنما أكتفى بما في الحجاز حيث ملتقى العلماء وموئل الأدباء , ووهكذا تربى في بيت جده العظيم.
وبعد وفاة الشيخ محمد نصيف وذلك سنة (1391) تحولت مكتبته العامرة للمكتبة العامة بجامعة الملك عبد العزيز ,, وأشرف على تسليمها وتسليم فهارسها عبد الرحمن , ولضخامتها الهائلة وكثرة مخطوطاتها فقد خصص لها جناح كبير جداً للعانية بها.
*******************
بعد وفاة الجد يحاول عبد الرحمن نصيف أن يقتفي أثر جده العالم الجليل الشهير , فقرر أن يبدأ في تكوين مكتبة تكون معلمة ومفخرة للمدينة التي عشقها وأحبته مدينة جدة , بدأ بجمع الكتب من أيام حياة جده , فقد اقتدى بقدوة حسنة , دفع فيها الغالي والنفيس , سافر وأقتنى مكتبات العلماء الذين ماتوا , وحافظ على تراثهم من الاندثار على أيدي جهلة الأبناء , جمع أندر الطبعات , بذل ماله ووقته , ولكنه كان له نكهة عجيبة!!.
مع ثرائه وماله وجاهه آثر أن تبقى المكتبة التي جمعها في منطقة البلد , وهي جدة القديمة , بجوار قصر جده الكبير الذي تحول متحفاً رسمياً وعاماً لزوار جدة (بل أصبح البيت من أهم معالم جدة القديمة) , بجوار المسجد أشرع عبد الرحمن مكتبته , وجعلها مقراً مشاعاً للباحثين والقارئين , لا أعرف أنه منع أحداً من دخولها ليلاً أو نهاراً , بإمكانك أن تدخل أيضاً حتى مكتبه الخاص في غيابه , وقد تسأل ولماذا مكتبه!! , فالجواب لأن الكتب ملئت جميع الحجرات الكبيرة والصغيرة , وحتى مكاتب الموظفين ترى الأرفف والدواليب المليئة والمزدحمة بالكتب مصطفة فوق رؤوسهم من جميع الجهات , وأعجب من ذلك الدرج والسلالم فلم يتركها هملاً , بل جعل على الحوائط أرففاً تجعلك تقف على كل درجة لتتأملها , في طراز فني جميل وأخاذ , ولما رأى السقف خلواً أبى تركه هكذا , فصنع فيه رفوفاً مكونة من رفين متدليين ملئها أيضاً ببعض الكتب والصحف القديمة جداً.
ومدخل المكتبة يوحي إليك أنك في متحف , فالباب جميل ومزخرف بنحاس منقوش بعناية , والرحى التي تستخدم في البيوت قديماً بجوارك , بعض النصب والشواهد على الأرض , على الجدران في الأسفل صور من الجرائد القديمة جداً التي تحمل بعض الأخبار الطريفة التي مات أصحابها وأحفادهم , وهذه الصحف موجودة ضمن مقتنياته.
بإمكانك أن تشم عبير وعبق الكتب هنا , وبإمكانك التصوير مجاناً من آلة التصوير وبالعدد الذي تشاء , في الوقت الذي تريد , وبإمكانك والبحث والقراءة , العامل الموجود مكلف بخدمتك وإحضار الشاي الأخضر , وإهدائك بعض الكتب التي يشتريها نصيف من فترة وأخرى لتوزيعها لوجه الله.لا يعني حضور موظفيه للعمل معه في مهنته المحاماة عدم السماح لك بالدخول , بل أنت تبحث وتقرا والموظف يعمل ويكتب , فأنت في دارة عجيبة , وإذا لم يناسبك النهار فتعال بعد العصر إلى العشاء بدون أن يشوش فكرك أحد من الموظفين الذين انتهى دوامهم.
بإمكانك مقابلة عبد الرحمن نصيف , أو الصلاة معه , وحقاً ستجد متعة في الحديث معه , فهو سهل وقريب , وجذاب في استقبال الناس , بل له طقوس رائعة سأذكرها لك.
يأتي الشيخ عبد الرحمن لمكتبه ومكتبته قبل الفجر بساعة حيث يسكن في شمال جده خلف أسواق المساعدية ,في أرقى أحياء جدة وأغلاها , ومع ذلك يصّر أن يكون قريباً من الناس البسطاء , فيدخل مكتبه ويبقى إلى الفجر , ثم يصلي الفجر في المسجد المجاور مسجد المعمار ويتلو أذكاره وأوراده , ثم يخرج من المسجد وهناك على الطريق يصطف الفقراء من الأفارقة وغيرهم ربما من باب المسجد لباب الدار ليوزع عليه أموال الصدقة وتكون معه جاهزة في حزم مربوطة , بعدها يدخل المكتبة ليجد عدداً من الضيوف الذين ربما لا يعرف أكثرهم لكنهم يحبونه ويجلونه , وربما كان بعضهم من أعيان السوق لكنه جاء حباً في مجالس الخير , فعادته أن يجعل إفطاراً من الفول الحجازي والتميز الأفغاني , وغيره مما اعتاد الناس على تناوله صباحاً في جدة , ويفرشه على الأرض بتواضع شديد وبجوار الكتب ويجلس بين الناس.
¥