يعلم مبلغه إلا الله عز وجل». والاستثناء في قوله "لا تفعلوا إلا بأم القرآن" أقصى ما يفيد إباحة القراءة لا وجوبها لأنه استثناء من النهي لا أمرٌ بالفعل.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت t قال: صلى بنا رسول الله r صلاة الغداة، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «إني لأراكم تقرؤون وراء إمامكم»، قلنا: نعم والله يا رسول الله، إنا لنفعل هَذًّا، قال: «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». وقد اختلف في هذا الحديث خلافاً كبيراً:
1 - رواه محمد بن إسحاق (جيد) عن مكحول مرسلاً عن محمود بن الربيع (صحابي) عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً. وهذا منقطع، ومراسيل مكحول ضعيفة.
2 - ورواه الوليد بن مسلم (من أحفظ الشاميين) عن مكحول عن محمود بن الربيع عن أبي نعيم عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً. وهذا غلط كما بين الدارقطني والبيهقي.
3 - ورواه زيد بن واقد (من كبار أصحاب مكحول) عن مكحول وحرام بن حكيم عن نافع بن محمود بن الربيع (مجهول كما في التمهيد11
46) عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً. نافع ليس له إلا هذا الحديث وقد أخطأ به، وقد بحثنا حاله بالتفصيل فراجعه.
4 - ورواه محمد بن الوليد الزبيدي (ثبت) والنعمان بن المنذر عن مكحول مرسلاً عن عبادة بن الصامت مرفوعاً. وهذا ظاهر الانقطاع.
5 - ورواه محمد بن راشد المكحولي عن مكحول به مقطوعاً عليه.
6 - ورواه رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت به موقوفاً عليه.
7 - وروى قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فقط: الزهريُّ عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت به مرفوعاً.
فالواضح أن مكحول قد اضطرب كثيراً في هذا الحديث ولم يحفظه، وليس هو ممن يقبل تعدد الأسانيد. وقد خالفه رجاء (وهو أحفظ منه باعترافه، وممن يروي باللفظ لا بالمعنى) فرواه موقوفاً على عبادة. كما خالفه جبل الحفظ الزهري فلم يذكر تلك القصة. واقتصر البخاري ومسلم على رواية الزهري، وليس فيها ذكرٌ لكون ذلك خلف الإمام. وبهذه العلل ضعفه عدد من المتقدمين مثل أحمد بن حنبل (في رواية الأثرم) والترمذي (في سننه) وابن معين (كما في إعلاء السنن 4
112) والطحاوي (كما في أحكام القرآن 1
251). قال الترمذي عقب إخراجه الحديث: «وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي r قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وهذا أصح». قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23
286): «وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة. وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع، وبين أن الحديث الصحيح قول النبي r: " لا صلاة إلا بأم القرآن"، فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين، ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة. وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين (يقصد مكحولاً)، وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا، فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة».
آثار الصحابة الصحيحة المؤيدة لمذهب الجمهور:
أخرج مسلم في صحيحه (#903) عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال: «لا قراءة مع الإمام في شيء». قال شيخ الإسلام: «ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة، وهو عالم أهل المدينة. فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة، لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء».
أخرج مالك في موطأه –ومن طريقه الترمذي، وصححه– عن وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: «من صلى ركعة فلم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل، إلا أن يكون وراء الإمام». قال ابن تيمية: «وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وهو من أعيان تلك الطبقة».
¥