وإننا في زمن لا يذيع صيت القارئ إلاّ إذا تعلّم أوزان ألحان أهل الغناء, والمقامات, مثل: البيات, الناري, السيكاه, الحكيمي, الديوان, الرست, الشور, المدمي, الخناجات, الأبراهمي, المنصوري, العجم, الصبا, المخالف, الجبوري, الحجاز, المثنوي, وغيرها.
وقد سمعت بعض قرائنا في الجزائر يقرأ بمقام الموشحات الحوزية الأندلسية, تكاد إذا استمعت إليه لا تفرق بين الأغاني الحوزية وبين القرآن الكريم.
وقرأت في تراجم بعض القراء المعاصرين, أنّ منهم من تعلم الموسيقى في المعاهد الموسيقية، وتعلّم الألحان والمقامات على يدي كبار الملحنين, حيث صرّح أحد كبرائهم أنه كان يتردّد على الملحن المشهور: رياض السنباطي ليأخذ عنه الألحان والمقامات, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وشهدت يوماً مسابقة أقيمت في التجويد فكان المحكّمون يوجهون القارئ عند التقويم إلى لزوم القراءة بالمقام الفلاني والعلاني.
هكذا أصبح الترتيل صناعة تضاهي الغناء والتلحين.
ثانياً: أدلة النهي عن القراءة بالمقامات وألحان أهل الغناء.
1 - روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكبائر والفسق، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية، والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم"] أخرجه الطبراني في الكبير، ومال ابن القيم إلى الاحتجاج به [
ووجه الدلالة منه:
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقراءة القرآن الكريم، وفقاً لطريقة العرب في تحسين أصواتهم به، وحذر من اتباع أهل الفسق في طرائقهم المتبعة في قراءته، من مراعاة الأنغام والتطريب المستفاد من الموسيقا، وذلك لحرمة إخضاع ألفاظ القرآن الكريم للنغمات الموسيقية وإيقاعاتها.
2 - روي عن عبس الغفاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها: أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم غناء"] أخرجه الطبراني في الأوسط [
ووجه الدلالة منه:
لقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الافتتان بالتطريب بالقرآن والتغني به على أوزان الألحان من علامات الساعة, وهذا غاية في الإنكار.
3 - روي أن زياد النهدي جاء إلى أنس رضي الله عنه مع القراء، فقيل له: اقرأ، فرفع زياد صوته بالقراءة وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه - وكان على وجهه خرقة سوداء - وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون، وكان أنس إذا رأى شيئاً ينكره رفع الخرقة عن وجهه"] زاد المعاد 1/ 137 [
ووجه الدلالة منه:
أنّ أنساً رضي الله عنه أنكر على زياد تطريبه بالقراءة، وبيَّن له أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يكونوا يفعلونه في قراءتهم للقرآن الكريم، وهذا منهم لا يكون إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي فيه.
4 - إنّ التطريب بالقراءة, وتكلّف أوزان أهل الغناء فيها, يتضمن -عادة- همز ما ليس بمهموز، ومد ما ليس بممدود، وترجيع الألف الواحدة ألفات، والواو واوات، والياء ياءات، فيؤدي هذا إلى زيادة في القرآن الكريم، وهو غير جائز.
5 - إنّ هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيج الطباع، وتلهي عن تدبّر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير التلذذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن.
وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن، لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد
6 - أنكر جمهور السلف رحمهم الله القراءة بالألحان وأوزان أهل الغناء, وعدّوها من البدع المحدثة, وهذه بعض الآثار في ذلك:
- عن يعقوب الهاشمي، قال: سمعت أبي أنه سأل أبا عبد الله عن القراءة بالألحان، فقال: «هو بدعة ومحدث، قلت: تكرهه يا أبا عبد الله -أي: الإمام أحمد-؟ قال: نعم، أكرهه، إلا ما كان من طبع، كما كان أبو موسى، فأما من يتعلمه بالألحان فمكروه. قلت: إن محمد بن سعيد الترمذي ذكر أنه قرأ ليحيى بن سعيد، فقال: صدقت، كان قرأ له، وقال: قراءة القرآن بالألحان مكروه»] رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [
- وعن عبد الرحمن المتطبب، يقول: قلت لأبي عبد الله في قراءة الألحان؟ فقال: «يا أبا الفضل، اتخذوه أغاني، اتخذوه أغاني، لا تسمع من هؤلاء».
- وكان محمد بن الهيثم، يقول: «لأن أسمع الغناء أحب إلي من أن أسمع قراءة الألحان»] رواه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [.
- ورد سؤال للشيخ العلامَّة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله,
ماذا يقول سماحتكم في قارئ القرآن بواسطة مقامات هي أشبه بالمقامات الغنائية بل هي مأخوذة منها أفيدونا بذلك جزاكم الله خيرا؟ فأجاب رحمه الله:
"لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المُغنيين بل يجب أن يقرأه كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، فيقرأه مُرتلاً, مُتحزناً, مُتخشعاً حتى يؤثر في القلوب التي تسمعه وحتى يتأثر هو بذلك. أما أن يقرأه على صفة المغنيين وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز"] مجموع فتاوى ومقالات [
وعليه ينبغي أخي الحبيب, أن تقرأ القرآن وتتغنى به على وفق الطبيعة والسليقة, واحذرن أن تقلّد المفتونين بالمقامات وألحان الغناء.
ويتوجّه النصح أيضاً للمستمع لكلام الرحمن, فينبغي عليه أن ينصرف إلى سماع المشهود لهم بالتمرّس في علم التجويد, مع البعد عن التكلف, وليحذر الانسياق في سماع المبتلين بقراءة القرآن بالألحان والمقامات.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
كتبه وحرّره: أبو يزيد سليم بن صفية الجزائري نزيل المدينة النبوية
المصدر ( http://tebessa.forume.biz/montada-f10/topic-t2370.htm#6006)
¥