وهاهم أرباب الصوت الإعلامي الشعبي الفاسد يحاولون تشويه صورته أمام الحاكم , فتصبح السجون منبراً لحريته وطريقاً لحياته العلمية.
ما قال الملأ لفرعون يحاولون تشويه صورة موسى عليه السلام يتكرر هذا المشهد مع ابن تيمية , بل ويتكرر دائماً مع المصلحين والعظماء.
يسجن في القاهرة ثم يرسل ويبعد فتحتضنه سجون الإسكندرية تكرر سجنه أكثر من مرة , فلم يرده ذلك عن فتاواه المصرية , لما دخل ابن تيمية سجون القاهرة ملئها علماً وفضلاً ونشر الخير على المساجين , أمرهم بالصلاة وعلمهم الأخلاق وأحبه السجناء بعد أن صلح حال أكثرهم وتحولوا دعاة للخير أو طلاباً من طلابه , عاش ابن تيمية بنفسية المصلح المحب لربه والعامل لنفع الناس , يصف المؤرخون تلك الفترة بأن السجن تحول إلى (خانقاه) وهي كلمة تعني دار العبادة للفقراء , فقد حول ابن تيمية السجن لمدرسة كبرى للمساجين.
لم يرض عن سجنه ودافع عن رأيه , وألف وصنف وكتب وناظر , لكنه مع ذلك لم يتألم كثيراً أو يصاب باكتئاب نفسي حاد , بل تبسم وقال قولته المشهورة: (ما يفعل أعدائي بي , إن جنتي في صدري و قتلي شهادة وسجني خلوة بربي ونفيي سياحة في الأرض) , ثم لما ذهب للإسكندرية سجن في البرج تجاه البحر في صالة فسيحة وتكاثر عليه الناس للقراءة والاستفادة.
ثم في آخر الأمر يُكرَّم ويخرج من سجن الإسكندرية عزيزاً رافع الرأس, ويخرجه (السلطان الناصر) سنة تسع وسبع مئة وينطلق به في معيته للقاهرة ليعلم ويفتي ويدرس , يصف تلميذيه ابن كثير وابن عبد الهادي أن شيخهما سكن بجوار جامع الحسين , ولك أن تتخيل نفسية عالم جاهر بحرب الخرافة والبدعة بكل وسيلة علمية كيف أستطاع أن يعيش في هذا الجو المشحون بالخرافة والتقديس للأشخاص!؟ , ولماذا لم يختر مكاناً آخر بعيداً عن هذه البدعة التي يحاربها!! , كيف سيعيش هناك بين متعصبي الطرق الصوفية!!.
يقول ابن عبد الهادي تلميذه في العقود الدرية: " ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين وعاد إلى بث العلم ونشره , والخلق يشتغلون عليه ويقرئون ويستفتونه ويجيبهم بالكلام والكتابة.
والأمراء والأكابر والناس يترددون إليه , وفيهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع , فقال: قد جعلت الكل في حل مما جرى.
وبعث الشيخ كتابا إلى أقاربه وأصحابه بدمشق يذكر ما هو فيه من النعم العظيمة والخير الكثير ويطلب فيه جملة من كتب العلم يرسل بها إليه " انتهى كلام ابن عبد الهادي.
هكذا بعد السجن والأذية والتشويه بكل وسيلة تكاد تلمح بين الأسواق والصخب وبين الأزقة والحوانيت فترى ابن تيمية يروح ويجيء مع طلاب الحرية العلمية والثقافة الأصيلة , تراه يمشي وهو يبين دين الله للناس فلا عظيم إلا الله , يسير فلا يجعل الناس يقبلون الأرض من تحته , ولا يتبركون بجسده ويده , يربيهم على الحرية للفرد التي نادى بها محمد صلى الله عليه وسلم في مكة , الحرية بين العبد وربه التي طلبها موسى عليه السلام وحارب من أجلها في مصر.
وترى خصومه يعقدون الجلسات لإخراجه من بين الناس ليصفوا لهم الجو , وهو لا يلتفت لمكرهم بل يريد لهم الخير والصلاح والهدية.
قصص عجيبة ومؤمرات مخيفة وتهديد بالقتل , وتراه يسير والناس بين يديه , وطلابه ومحبيه تخفق قلوبهم خشية إلحاق الضرر الجسمي به , وهو يقول عن خصومه لطلابه كما في ترجمته: لعل اله يأجرهم على نيتهم؟؟ , وتراه يسير لجامع عمر بن العاص بالفسطاط بوسط القاهرة , وينصح الجالسين في المقاهي الذين يلعبون بالشطرنج , وربما وبخهم ونصحهم فلا يشغله الخصام العلمي الكبير عن نصح عامة الناس ودهمائهم , فكلامه ليس نخبوياً أو فئوياً بل يصلح لكل فئات الناس , كل هذا والمتصوفة المبتدعة المنحرفة تزيد من تضييقها عليه , وهو يزداد من توسيع رحمة الها بهم!! , فلله أي رجل هذا!.
يسأله الوالي بعد أن أكرمه ونصره , وقد أحضر خصومه بين يديه , أولئك الخصوم الذين ما كان يرضيهم إلا قتله وتصفيته , يسأله إن كان يريد أن ينتصف من أحد من خصومه أو يسترد شيئاً من كرامته المهدرة , يسأله الوالي وهو جاد صادق في إنفاذ العقوبة وإنزالها , فيرفض ابن تيمية ويعفوا عن الجميع في خلق وتواضع رفيع , يبين للناس أن أهل السنة هم أرحم الخلق بالخلق , وأقدرهم على رحمة الناس.
من قبله قي هذا الخلق الكريم كان الأنبياء والرسل , ومن بعدهم سار أهل السنة في رحمة الناس , فهذا أحمد بن حنبل يقدم المعتزلة على سجنه , ويقدمون على صنوف القتل العلني , وهو يهدئ من روع العامة , يطلب من الجميع الهدوء حتى تنكشف الغمة وتذهب البدعة ,لكنه لم يتراجع عن موقفه , لم يتبدل عن رأيه أو يرضى بالتحريف والتبديل في الشريعة الإسلامية , والمعتزلة أرباب العقول كما يسمون أنفسهم يمارسون أولن التعذيب لمجرد المخالفة في الفكرة التي زعموها واخترعوها , فأين الثرى من الثريا!! , وأين رحمة أهل السنة من طغيان أهل البدع!!.
وابن تيمية هذا العالم الجليل رغم المحن وصوارفها وآلامها , لم يأمر طلابه بتخريب الممتلكات العامة , ولا بحرق بيوت خصومه , ولا بتصفيتهم جسدياً ليكونوا عبرة لغيره , لقد عاش في مصر والشام وهي مليئة بأصناف الديانات والفرق والمذاهب وسجن حتى مات في القلعة بدمشق , ومع ذلك سار بسيرة الأنبياء عليهم السلام (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله) , إنه طريق الإصلاح والتغيير وليس طريق التخريب والتدمير , طريق شعاره قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) , وليس طريق الانتقام للنفس وسلطانها بحجة الدفاع عن الدين , ولذلك مات ابن تيمية سنة (727) وخرجت دمشق في جنازته , وبكته الأمة وهي تسير في جنازته المهيبة التي لم يتخلف عنها أحد.
فكأن السجن هو قصر الحرية والعظمة له , وكأنه مسرح يراه الناس عن كثب وهو يتعبد في داخله , مات وبقي علمه في الخافقين , وتتلمذ على كتبه ومذهبه الملايين من الناس على مرّ القرون رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
وكتبه: خضر بن سند
مدينة جدة حرسها الله
¥