فسامحهم الله وعفا سبحانه وتعالى، ونسخ ما دل عليه مضمون هذه الآية، وأنهم لا يُؤاخذون إلا بما عملوا، أو بما أصروا عليه وثبتوا عليه، وأما ما يخطر من الخطرات في النفوس والقلوب فهذا معفوٌ عنه؛ ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)).
فزال هذا الإشكال والحمد لله، وصار المؤمن غير مؤاخذ إلا بما عمله أو قاله أو أصرّ عليه بقلبه، عملاً بقلبه، كإصراره على ما يقع له من الكِبر والنفاق ونحو ذلك.
أما الخواطر والشكوك التي تعرض ثم تزول بالإيمان واليقين، فهذه لا تضر، بل هي عارضة من الشيطان لا تضر؛ ولهذا لما قال الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يخر من السماء أسهل عليه من أن ينطق به. أو كما قالوا، قال صلى الله عليه وسلم: ((ذاك صريح الإيمان)).
فتلك الوسوسة من الشيطان؛ إذا رأى من المؤمن الصدق والإخلاص وصحة الإيمان والرغبة فيما عند الله وسوس عليه بعض الشيء، وألقى في قلبه خواطر خبيثة؛ فإذا جاهدها وحاربها بالإيمان والتعوذ بالله من الشيطان سلم من شرها؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسله))، وفي لفظ: ((فليستعذ بالله وَلْيَنتهِ)).
هذا يدلنا على أن الإنسان عُرضة للوساوس الشيطانية، فإذا عرض له وساوس خبيثة وخطرات منكرة فليبتعد عنها وليقل: آمنت بالله ورسله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولينته، ولا يلتفت إليها؛ فإنها باطلة ولا تضره، وهي من الخطرات التي عفا الله عنها سبحانه وتعالى) اهـ.
[1] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4733#_ftnref1#_ftnref1) البقرة: 284.
[2] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4733#_ftnref2#_ftnref2) البقرة: 284.
[3] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4733#_ftnref3#_ftnref3) البقرة: 285، 286.
(فتاوى نور على الدرب) الجزء الأول.
(47) التوفيق بين قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}.
السؤال:
يقول الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [1] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4772#_ftn1#_ftn1)، ويقول تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [2] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4772#_ftn2#_ftn2) فما معنى الآيتين؟ وكيف نجمع بينهما علماً بأن ظاهرهما التعارض؟
الجواب:
(ليس هناك تعارض يا أخي; فالله جل وعلا بين لنا أن ما أصابنا هو بأسباب كسبنا، وبين أن ما يقع فهو بقضائه وقدره قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا فقد سبق علمه وقدره وكتابته لكل شيء، ولكنه سبحانه علق ما أصابنا مما يضرنا بأنه بأسباب معاصينا وإن كانت مكتوبة مقدرة، لكن لنا كسب ولنا عمل ولنا اختيار.
فكل شيء يقع بقدر سواء من الطاعات والمعاصي، فما وقع منا من معاصٍ فهو من كسبنا ومن عملنا ونحن مؤاخذون به إذا فعلناه، ولنا عقول ومشيئة وقدرة وعمل ولهذا قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [3] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4772#_ftn3#_ftn3)، والآية الأخرى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [4] ( http://www.ibnbaz.org.sa/mat/4772#_ftn4#_ftn4).
فلا تنافي بين القدر وبين العمل; فالقدر سابق ولله الحجة البالغة سبحانه وتعالى، والأعمال أعمالنا كالزنا وشرب الخمر وترك الصلاة والعقوق وقطيعة الرحم، فهي من أعمالنا ونحن نستحق عليها العقوبة بسبب تفريطنا وتقصيرنا لأن لنا اختياراً ولنا عمل ينسب إلينا، وإن كان سبق في علم الله كتابته وتقديره.
فالقدر ليس حجة على فعل المعايب والمنكرات، فالله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة فيما مضى به قدره وعلمه وكتابته، ونحن مسئولون عن أعمالنا وعن تقصيرنا، ومؤاخذون بذلك إلا أن يعفو ربنا عنا.
¥