وأرضَ بالماضي، واندمْ على ما كان من معصيةٍ فيه، فالرضا يبعث في قلبك الخير، ويحضُّك على تولِّيه والحرص على معناه كلِّه، أينما كان وحيث وكيف كان، فلا تضيِّعْه بأن لا ترضى، فقدر الله يحكم كل خلقٍ وأمرٍ,’
وحين أكتب إليك أي بُني، فإنما أُفضي إليك من ذاتي إلى ذاتي،’
فليس يصلح إيمان العبد المؤمن، إلا بما أودع الله قلبه -وهو يعلمه- من حبِّ الخير لإخوانه ما يحبُّه لنفسه،’
فهل لك أي بُني أينما كنت وفي أيَّة بقعةٍ من بقاع الأرض، أن تصغي لحديثي إليك،’
فكلُّ كلمةٍ فيه
وكلُّ جملة من جمله
وكلُّ معنى
كلُّها تظهر تلك الكلمة، أو تنبتُه هذه الجملة، وما هيَ كلُّها مجتمعةً ومنفردةً، إلا من حصاد العمر، وتجربةِ الأيام، وجني النظر المتأمِّل الواقف عند أمر الله ونهيه،’
فخذ بأحسنه لأحسنك، ودع ما يثقل عليك إن كان غير موثوق إلى دين الحق،’
يكن لك إن شاء الله ردءاً في غدوِّك وأصيلك، وصبحك وعَشِيِّك، وحين تظهر وتروح
فلا تعجل على نفسك بتركه والزهد فيه، واحمد المولى سبحانه على ضراءَ مسّتك، كما تحمده على سرَّاءَ أنعم الله بها عليك، واصبر على ما أصابك، وزيِّن قلبك بالتقوى، وأقبل على ربك بالطاعة والصدق،’
وإياك أن يخالطك الرضا بما صنعت، وكن على وجلٍ من تزيين النفس والشيطان أنك قد أحسنت،’
واجعل قبلة قلبك السماءَ، وأدم دعاءَه بقولك:
«اللهم رضِّني بقضائك، وقنِّعني بعطائك، وأخلف لي في كلِّ غائبةٍ خيراً».
(2)
أي بُني,’
لا تشرب الماء إلا علاًّ,’
ولا ترد طعاماً أُكل منه,’
ولا تلبس قميصاً لبسه غيرك,’
ولا تساكن فخوراً، ولا خوَّاناً ولا أثيماً,’
ولا تُصاحب جباناً، ولا بخيلاً، ولا جحوداً,’
0
0
ولا تجالس من يرى لنفسه فضلاً عليك، ولا ممارياً غثَّ الحديث، ولا ثقيلا تستمسج كلامه، ولا مفاخراً بفعال غيره،’
0
0
ولا ودوداً بأهل المعاصي، ولا باراً بأخلاءِ السوءِ،’
ولا لاتَّاً بمغراف غيره، ولا عائباً على الناس ما لا يراه فيه وهو الأحقُّ به،’
ولا حائماً حول أعراض الناس بمكاره اللسان، ولا مُنَقِّباً عن عيوب الآخرين،’
وعيوبك لو وُزِّعت عليهم لكفتهم،’
ولا تتمنَّ نعمةً أصابها حاسرٌ
(3)
أي بُني,’
خير لك، وليكن أحبَّ إليك، أن تستدفئ بالمزن المثقلة بالماء في الشتاء،’
وأن تبترد بلهيب الشمس في الصيف، وأن تفترش الشوك اليابس القوي في ليل ونهار،’
0
0
وأن تكتحل بالرَّماد المحمَّى،’
0
0
وأن تأكل طحين الزجاج، وأن تشرب الماءَ الملح الأجاج،’
من أن تضع مختاراً غلَّ الذُّل في عنقك،’
أو أن تأكل سحتاً خبيثاً، أو أن تصيب حراماً يشينك عند الله في سر أو علانية،’
في الدنيا أو في الآخرة.
(4)
أي بُني,’
اعلم أن العاقل البصير هو الذي يعجل إلى تدارك ما بقي من سبب يُرجى به صلاح الأمر الذي توعَّر على القوانين،’
واختلطت به الحقوق،’
وتجاذبته في آن معاً الأهواء والكروب حتى صار أو كاد قطعة من تاريخ فسيح الأرجاء،’
أُذيب في أتون.
(5)
أي بُني,’
لم يعد لواحد من الأمة أن يأذن لنفسه أن ينصرف عن أمر -مهما بدا صغيراً- يؤَمِّل في صلاحها،’
ورأب صدعها، وتوحيد صفها،’
فالطامَّة الكبرى التي ألبستها الرزايا، وردَّتها الفتن والبلايا، وساقتها إلى الحتوف والمنايا،’
لا تؤذن بشيء من مثله,’
فقد حان الوقت في إعجال أمر، لم يعد له مكان في الريث، وإلا فإن ذلك يكون من سوء العيث،’
وتُقيل الحيث.
(6)
أي بُني,’
ارتضع رمال البيد العطاش، وانهل من ثرى الصحارى الغارقة في الجدب والظلام،’
ولا تفلت حبل الثريا من يدك من يأس،’
فإنك إن تفعل، فقد أدنيت نفسك من مصرع الرجاءِ الآفل،’
واحتطب لحنيذك من أطراف الشمس، وامضغ الصَّبر بشوكه، ولا تعدل عن روائع الموت الآزفة بالنقيع،’
وأرِشْ سهمك لتفَوِّقه إلى حلوق الخطوب إن رامتك بضراءَ بيد الظلم الشَّثنة،’
ومدَّ بصرك إلى الآفاق الراعشة بذوامر القنوط ,’
فأبطل كيدها أن تُصيب به نفوس البائسين المستضعفين.
(7)
أي بُني,’
انظر بني، ما أحسن أن يعرف المرءُ قدر نفسه، فلا يعدوه،’
فإنه إن عرف قدره عزَّ عليه أن يشتار العسل إلا من قمم الشامخات الراسيات، وأن يشرب الماءَ إلا من المزن المعصرات العاليات،’
واعلم رعاك الله أن أهنأ الحب ما تزول به ضرَّاءُ القلوب،’
¥