تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

القائل يرى أنهم لم يلزموا ما لا يطيقون، لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون، فأزيل عنهم الإشفاق، وبين أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق، إذ ليس فيه نص على تكليفه، واحتج بعضهم باستعاذتهم منه بقوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} ولا يستعيذون إلا مما يجوز التكليف به. وأجاب عن ذلك بعضهم بأن معنى ذلك ما لا نطيقه إلا بمشقة، وذهب بعضهم إلى أن الاَية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين، فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله. وذكر الإمام الواحدي رحمه الله الاختلاف في نسخ الاَية ثم قال: والمحققون يختارون أن تكون الاَية محكمة غير منسوخة، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به). وفي الحديث الاَخر: (إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا). وفي الحديث الاَخر: (في الحسنة إلى سبعمائة ضعف).

وفي الاَخر: (في السيئة إنما تركها من جراي) فقال الإمام المازري رحمه الله مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب: أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم، هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث، قال القاضي عياض رحمه الله: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية الله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث: "إنما تركها من جراي" فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها، ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم، وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس هل تكتب حسنة: قال: لا، لأنه إنما حمله على تركها الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له، هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه. وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، ومن ذلك قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} الاَية. وقوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} والاَيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولن يهلك على الله إلا هالك) فقال القاضي عياض رحمه الله معناه: من حتم هلاكه وسدت عليه أبواب الهدى مع سعة رحمة الله تعالى وكرمه، وجعله السيئة حسنة إذا لم يعملها وإذا عملها واحدة، والحسنة إذا لم يعملها واحدة وإذا عملها عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فمن حرم هذه السعة وفاته هذا الفضل وكثرت سيئاته حتى غلبت مع أنها أفراد حسناته مع أنها متضاعفة فهو الهالك المحروم، والله أعلم. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" ففيه تصريح بالمذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على سبعمائة ضعف، وحكى أبو الحسن أقضى القضاة الماوردي عن بعض العلماء أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ضعف وهو غلط لهذا الحديث، والله أعلم. وفي أحاديث الباب بيان ما أكرم الله تعالى به هذه الأمة زادها الله شرفا وخففه عنهم مما كان على غيرهم من الإصر وهو الثقل والمشاق، وبيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من المسارعة إلى الانقياد لأحكام الشرع. قال أبو إسحاق الزجاج: هذا الدعاء الذي في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخر السورة أخبر الله تعالى به عن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وجعله في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ ويدعى به كثيرا. قال الزجاج: وقوله تعالى: {فانصرنا على القوم الكافرين} أي أظهرنا عليهم في الحجة والحرب وإظهار الدين، وسيأتي في كتاب الصلاة من هذا الكتاب الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الاَيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" قيل: كفتاه من قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه المكروه فيها، والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير