الثاني: جواز الأخذ منها مع توفيرها وإرخائها، ودليلهم أن الإعفاء يأتي في اللغة بمعنى الكثرة كما تقدم، قالوا: فمن ترك لحيته وأعفاها حتى طالت وكثرت فقد حقق الإعفاء الواجب، كما استدلوا بفعل عدد من الصحابة منهم ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم بأخذ ما زاد على القبضة، ثم اختلفوا هل كان هذا في نسك أم لا؟ وهذا الاختلاف لا يغير في أصل الاستدلال لأنه كما قال ابن عبدالبر في (الاستذكار) (4/ 317): ((لو كان غير جائز ما جاز في الحج)).
وسبب اختلافهم هو أن راوي حديث: (أعفوا اللحى) هو ابن عمر رضي الله عنه نفسه الذي كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة فمن قال بعدم الجواز استدل بقاعدة: (العبرة برواية الراوي لا برأيه) ومن قال بالجواز استدل بقاعدة: (الراوي أدرى بما روى) وقال لم يخالف ابن عمر رضي الله عنهما روايته بل هذا معنى الإعفاء.
وقد قال بجواز أخذ ما زاد على القبضة جمهور من أهل العلم منهم الإمام مالك والإمام أحمد وابن عبدالبر وابن تيمية وغيرهم وعندهم أن ما زاد على القبضة تحقق فيه الإعفاء والتوفير والإرخاء:
قال أبو الوليد الباجي في (المنتقى شرح الموطأ) (4/ 367): ((روى ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشذ، قيل لمالك: فإذا طالت جداً قال: أرى أن يؤخذ منها وتقص، وروي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة))
وقال ابن هانئ في مسائله (2/ 151): ((سألت أبا عبد الله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة، قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه، ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه ومن تحت حلقه)) أ. هـ
وقال الخلال في كتاب (الوقوف والترجل) (ص129): ((أخبرني حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة، وكأنه ذهب إليه، قلت ما الإعفاء: قال: يروى عن النبي صبى الله عليه وسلم، قال: كأن هذا عنده الإعفاء)) أ. هـ
و قال المرداوي في (الإنصاف) (1/ 121): ((ويعفي لحيته ... ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة، ونصه -يعني أحمد- لا بأس بأخذ ذلك وأخذ ما تحت الحلق ... )) أ. هـ
وقال ابن بطال في شرح البخاري (9/ 147): ((قال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت))
وقال الحافظ ابن عبد البر في (الاستذكار) (4/ 317): ((وفي أخذ ابن عمر من آخر لحيته في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج ... وابن عمر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأعفوا اللحى) وهو أعلم بمعنى ما روى، فكان المعنى عنده وعند جمهور العلماء الأخذ من اللحية ما تطاير والله أعلم))
وقال شيخ الإسلام في (شرح العمدة) (1/ 236): ((وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها)) أ. هـ
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (10/ 36): ((قلت: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه)) ا. هـ
وفي حاشية ابن عابدين (2/ 459): ((لا بأس بأخذ أطراف اللحية إذا طالت)) أ. هـ
وقال الغزالي في (الإحياء) (1/ 143): ((وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وقالا: تركها عافية أحب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أعفوا اللحى)) والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب)) أ. هـ
وقال العراقي في (طرح التثريب) (2/ 49): (إعفاء اللحية، وهو توفير شعرها وتكثيره وأنه لا يأخذ منه كالشارب، من عفا الشيء إذا كثر وزاد ... واستدل به الجمهور على أن الأولى ترك اللحية على حالها وأن لا يقطع منها شيء))
وقال ابن الهمام في (فتح القدير) (2/ 270): ((يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم ... فيقع بذلك الجمع بين الروايات)) أ. هـ
¥