وقد يجاب عنه بأن الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبو العهد بحقيقة الشرك فكان من إكمال الدين وإتمام الدعوة القضاء على كل ما يدعو إلى الشرك أو يذكر به ولا شك أن قياس عصرنا على عصر الرسالة قياس فيه نظر، كما أن الذرائع يمكن أن تسد بطريق آخر غير المنع·
كما أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سد الذرائع الموصلة للشرك ومن أبرز الأحداث الواردة في ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف ج2/ص150عن نَافِعٍ قال بَلَغَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أَنَّ أناسا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ التي بُويِعَ تَحْتَهَا قال فَأَمَرَ بها فَقُطِعَتْ·
وقد يجاب عن ذلك بأن الخبر مرسل وعلى فرض صحته فإن الشجرة التي قطعها عمر ليس الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى البخاري في صحيحه ج3/ص1080عن نَافِعٍ قال قال بن عُمَرَ رضي الله عنهما رَجَعْنَا من الْعَامِ الْمُقْبِلِ فما اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ على الشَّجَرَةِ التي بَايَعْنَا تَحْتَهَا كانت رَحْمَةً من اللَّهِ·
وجاء في صحيح مسلم ج3/ص1485عن سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ قال كان أبي مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الشَّجَرَةِ قال فَانْطَلَقْنَا في قَابِلٍ حَاجِّينَ فَخَفِيَ عَلَيْنَا مَكَانُهَا ···إلخ·
كما أن عمر رضي الله عنه قطعها لأن الناس اتخذوها مسجدا وليس لمجرد أنهم كانوا يأتون لرؤيتها، فتحققت ذريعة الافتتان بها، ولا نختلف في أنه إذا تحققت ذريعة الافتتان بغار حراء أو ثور أنه يمنع الناس من زيارتهما، لكن نحن ندعي أن الذريعة لم تتحقق وفي حال تحققها فإنه يمكن سدها بغير منع الناس من زيارة هذين الموضعين·
يدلك على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من عام قابل رؤيتها، واجتازوا إليها وهم قاصدون من المدينة فلم يستطيعوا التحقق منها، مع أنها لم تكن في طريق القادم من مكة إلى المدينة، وإنما جعلها الرسول في طريقه إلى مكة في غزوة الحديبية تضليلا لأعدائه لما عرف عنه أنه إذا أراد أرضاً ورَّى بغيرها·
حجج المبيحين للزيارة
أما تغليب جانب ترك الناس وما هم عليه من زيارة هذين الأثرين دون تكلف الإنكار عليهم فيعضده أمران:
أولهما: أمر الله تعالى بالسير في آثار من سلف من الأمم للاعتبار، وذلك في مثل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] قال القرطبي عند هذه الآية: أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين: سافروا في الأرض فانظروا واختبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب، وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار· ا· هـ 6/ 398·
ولا شك أن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر فيما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الضعف وقلة الحيلة، ثم ما آل إليه أمر الإسلام من العز، وما كان عليه الكفر من السطوة حتى كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هاجر من أحب بلاد الله إليه ثم انتهى أمر الإسلام إلى ما انتهى إليه من العز والدولة والمنعة، كل ذلك يجعل تلك الآثار حرية بالسير فيها والاعتبار بها·
الآخر: أن الإنكار في زيارة مثل هذه البقاع دون قصد التعبد والتبرك لم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أحد من العلماء من بعدهم، بل قد ورد عن الإمام أحمد وهو إمام أهل الحديث أنه اختبأ في الغار ثلاثاً، شرح الكوكب 2/ 181· واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله الجبلية اختلف الأصوليون في حكمه على قولين: أحدهما الإباحة، والآخر الندب، ولم يرد عن أحد أنه محرم أم مكروه، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق المعرور بن سويد قال: خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله، فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض، مصنف ابن أبي شيبة 2/ 151· فإنما كان إنكاره رضي الله عنه لكون الصلاة عبادة توقيفية لا يجوز الابتداع في مكانها كما لا يجوز الابتداع في صفتها،
¥