وقد يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، وسبب كبره بالعلم أمران:
أحدهما: أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما في الحقيقة، فإن العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر، قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28].
ثانيهما: أن يخوض في العلم، وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيئ الأخلاق، فإنه لم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات فبقي خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم صادف العلم من قلبه منزلا خبيثا فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره، وقد ضرب «وهب» لهذا مثلا فقال: العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة، فكذلك العلم يحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها، فيزيد المتكبر كبرا والمتواضع تواضعا، وهذا ; لأن من كانت همته الكبر هو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبرا، وإذا كان الرجل خائفا مع علمه فازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه فيزداد خوفا.
الثاني العمل والعبادة: وليس يخلو عن رذيلة الكبر واستمالة قلوب الناس العباد فيترشح منهم الكبر في الدين والدنيا، أما في الدنيا فهو أنهم يتوقعون ذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس، وكأنهم يرون عبادتهم منة على الخلق، وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا، وهو الهالك تحقيقا مهما رأى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم» وإنما قال ذلك ; لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله مغتر آمن من مكره غير خائف من سطوته، وكيف لا يخاف ويكفيه شرا احتقاره لغيره، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء شرا أن يحقر أخاه المسلم».
وكثير من العباد إذا استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له، ولا يشك في أنه صار ممقوتا عند الله، وذلك لعظم قدر نفسه عنده، وهو جهل وجمع بين الكبر والعجب والاغترار بالله.
وقد ينتهي الحمق والغباوة ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول: «سترون ما يجري عليه»، وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من كراماته، وأن الله ما أراد إلا الانتقام له مع أنه يرى طبقات من الكفار يسبون الله ورسوله، وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من قتلهم، ومنهم من ضربهم، ثم إن الله أمهل أكثرهم، ولا يعاقبهم في الدنيا، بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا، ولا في الآخرة: أفيظنهذا الجاهل المغرور أنه أكرم على الله من أنبيائه، وأنه قد انتقم له بما لم ينتقم لأنبيائه به، ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره، وهو غافل عن هلاك نفسه، فهذه عقيدة المغترين، وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله السلف بعد انصرافه من عرفات: «كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم» فانظر إلى الفرق بين الرجلين: هذا يتقي الله ظاهرا وباطنا، وهو وجل على نفسه مزدر لعمله، وذاك يضمر من الرياء والكبر والغل ما هو ضحكة للشيطان به، ثم إنه يمتن على الله بعمله.
ومن آثار الكبر في العابد أن يعبس وجهه كأنه متنزه عن الناس مستقذر لهم، وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب، ولا في الرقبة حتى تطأطأ، ولا في الذيل حتى يضم، إنما الورع في القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا» وأشار إلى صدره، فقد كان صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق وأتقاهم، وكان أوسعهم خلقا وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا كما قال تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) [الشعراء: 215].
الثالث: التكبر بالحسب والنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا وعلما، وقد يتكبر بعضهم فيأنف من مخالطة الناس ومجالستهم، وقد يجري على لسانه التفاخر به فيقول لغيره: من أنت ومن أبوك فأنا فلان ابن فلان، ومع مثلي تتكلم!.
وقد روي أن «أبا ذر» رضي الله عنه قال: «قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال:» يا أبا ذر، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل «فقال» أبو ذر «: فاضطجعت وقلت للرجل: قم فطأ على خدي».
فانظر كيف نبهه صلى الله عليه وسلم على أن ذلك جهل، وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل.
الرابع: التفاخر بالجمال، وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس.
الخامس: الكبر بالمال وذلك يجري بين الأمراء والتجار في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه، وكل ذلك جهل بفضيلة الفقر وآفة الغنى.
السادس: الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف.
السابع: التكبر بالأتباع والأنصار والعشيرة والأقارب.
فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض.
نسأله تعالى العون بلطفه ورحمته.
موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين ص264
¥