شهيدُ العيد ....
ـ[أبو محمد المقبل]ــــــــ[06 - 08 - 09, 02:17 ص]ـ
نُشِرت سنة 1946 م
كلفتني محطة الشرق الأدنى أن أكتب قصة لتذاع عني أول يوم من عيد الأضحى , وهذا هو العيد حل حلَّت عليكم فيه البركات والخيرات, ولكن القصة لم تكتب ....
إن لها قصة ياسادة فاسمعوا ....
*****
أنا رجل من طبعه التأجيل والتسويف
أؤخر الأمر , مادام لي فيه فسحة
أرجئه إلى آخر لحظة ثم أقوم كالمجنون أنط قافزاً مثل الأرنب .. !!
الذي زعم (لافونتين) أنه قد نام حتى سبقته السلحفاة وإن لم أكن قد رأيت سلحفاة تسبق أرنبا .... ؟
فلما ورد علي كتاب المحطة نظرت فإذا بيني وبين الموعد أمد طويل فاطمأننت ونمت .. ,
حتى إذا كانت ليلة العيد ولم يبق أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة وألحق بها البريد الوي , أخذت قلمي وصحيفتي لأكتب فسُدَّت علي أبواب القول ومنافذه .....
وعدت مرتجَّاً علي محبوسا لساني كأني ما مارست الكتابة قط , وكذلك نَفَسُ الأديب ياسادة تتفتح تفتح الينبوع الدفاق , ثم تشح شح الصخرة الصماء ماتبض بقطرة ماء ,
ولكن الناس لايصدقون ذلك .. !
ونزل بي مانزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حوارا للفيلم وجعلوا له جعلا ضخما
حشد قواه وفر لأجله من داره ثم انتهى به الأمر أن ألف كتاب ..
((الحمار)) .. !!
عند ذلك لبست ثيابي وهربت إلى السوق ..
****
جلت في الأسواق وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر .. !
وقد أوقدت فيها المصابيح , وفتحت المخازن , وانتشر الباعة , وتدفق عليها أهل البلد ,
وكل بائع ينادي برفيع صوته ,
وكل مشتر يصيح ,
وكل مجتاز يتكلم ,
والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظور ومشموم.
وكل يريد أن يعدَّ الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه ....
وكنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن نازح الفكر , أعمل عقلي على هذه القصة .. التي وعدت المحطة بها , فأعلنتْ عنها وبشرتْ بها, ثم لم أستطع أن اكتبها ..
حتى وصلت إلى (باب المصلى) ..
فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان
فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر
فأقبلت أدفع الناس بكتفي
وأشق طريقي بيديَّ كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم
وأصغي إل هذا الفيض العجيب من .... النثر الفني ... (يقصد السب) الذي جادت به قرائحهم,
فتدفق علي من ألسنتهم ,
حت بلغت المشهد ....
ونظرت ... !!!
ثم نظرت .... ! فرأيت اثنان يختصمان ويعتركان ,
أما أحدهما فكان مسكينا قميئا أعزل عاجزاً ,
وأما الآخر فكانضخماً طوالا كالح الوجه, مفتول العضلات وسخ الثياب,
قد حمل سكينا في يده طويلة النصل حديدية الشفرة ..
وهجم بها على صاحبه ...
والناس ينظرون .. ؟
ولا ينكرون ... !!
وصاحبه المسكين يصرخ ....
ويتلفت تلفت المذعور ... !!
ويطلب الغوث ...... ولا يغيثه أحد
ويطلب المهرب .... ويسد الناس عليه طريق المهرب ... !
وإني لأفكرماذا أصنع .. ؟؟
وإذا بالخبيث العاتي ...
يذبحه والله ..... !!!!!!!!
نعم يذبحه أمامنا ذبحاً
ويتركه يتخبط بدمائه
ويوليه ظهره ويمضي إلى دكانه ... ؟؟!!
كأنه لم يرتكب جرما ولم يأت الأمر النكر جهارا ..
وكدت أهجم عليه وأسلمه الشرط.
ثم ذكرت أن الشجاعة في هذه المواطن تهور وحماقة
, وأن المجرم بيده السكين.
لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده من البشر
وطمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه
فأتبعه وأشد أزره
فلا والله ماتحرك أحد منهم, ولاجرؤ على ذلك,
بل لقد تكلم واحد منهم .... ؟
فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه
رأيته يجزع منه ويخاف
ويقول بصوت مضطرب متلجلج ....
((الله يُسَلِّم يديك))
وحرت ماذا أعمل؟؟
أأُبلغ الشرطة , أو أدعهم وأمضي إلى داري ولا علي ولا لي .. ؟
ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت ,
وأبعث به ليذاع ويعرفه الإنسان.
وهأنذا أتهم الرجل بالقتل , وأدعوا الحكومة للقبض عليه ...
حتى يعاقب ويكون عبرة للمعتبر ....
ولا يحسبن أحد أنه فر,
أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة
أو أنها من أساطير الأولين ..
أو من أخبار العصور الخوالي.
فاقاتل موجود في دكانه ,
يغدوا إليها ويروح إلى بيته.
والقصة صحيحة رأيتها بعَيْنَيْ رأسي
وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه
متيقظ غير نائم ولا حالم
صاح غير مخدر ولا سكران ,
ثم إني رأيتها الليلة البارحة ... !! (هو الآن يقولها يوم العيد)
وهذه القصة الفظيعة كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي
التي فكرت فيها وأطلت التفكير,
فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها؟؟
أفسدت الأخلاق,
وضاعت المروءات
حتى لاننكر الأمر النكر ,
أم خارت العزائم ,
وانخلعت القلوب
حتى لا نجروء على المجرم الظالم
وهل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف
حتى ماتدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق؟
لقد سكت الجميع ... !
حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه ...... ؟؟
وقعدوا عن الثأر له ... !!!
ولم يتقدم أحد منهم شاكيا ولا مدعيا ... !!
لأن القاتل كما زعموا .......
عاازم على ذبحهم كلهم إن قدر عليهم .....
وماضيه حافل بمثل هذه الجرائم ... !! (نسأل الله العافية)
فما سر هذا السكوت؟
لقد علمت السر بعد يا سادة,
ذلك أن المسكين الشهيد كان .....
..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
{خروفاً من خرفان الضحية}
وأن القاتل كان
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
{جزَّار الحارة}
وأن الناس شاركوه في جرمه, فأكلوا لحم الذبيح مشويا ومقليا ومطهيا
((وأكلت معهم))
ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد
وكل عام وأنتم بخير .. !)) بتصرف يسير.
من كتاب صور وخواطر لعلي الطنطاوي رحمة الله عليه
¥