والجواب عن الآية الثالثة: أن لفظ الأمر حقيقة في القول بالإجماع ولا نسلم أنه [ص: 143] يطلق على الفعل، على أن الضمير في (أمره) يجوز أن يكون راجعا إلى الله سبحانه ; لأنه أقرب المذكورين.
والجواب عن الآية الرابعة: أن التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير في الصورة والصفة، حتى لو فعل صلى الله عليه وآله وسلم شيئا على طريق التطوع، وفعلناه على طريق الوجوب، لم نكن متأسين به، فلا يلزم وجوب ما فعله إلا إذا دل دليل آخر على وجوبه، فلو فعلنا الفعل الذي فعله مجردا عن دليل الوجوب، معتقدين أنه واجب علينا لكان ذلك قادحا في التأسي.
والجواب عن الآية الخامسة: أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو بالمراد على اختلاف المذهبين، فلا يدل ذلك على وجوب أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الجواب عن دعوى إجماع الصحابة، فهم لم يجمعوا على كل فعل يبلغهم، بل أجمعوا على الاقتداء بالأفعال على صفتها التي هي ثابتة لها من وجوب أو ندب أو نحوهما، والوجوب في تلك الصورة المذكورة مأخوذ من الأدلة الدالة على وجوب الغسل من الجنابة.
وأما الجواب عن المعقول: فالاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الغرر قطعا، وهاهنا ليس كذلك ; لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما على الأمة، وإذا احتمل لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا.
القول الثاني: أنه للندب، وقد حكاه الجويني في البرهان عن الشافعي، فقال: وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، وقال الرازي في المحصول: إن هذا القول نسب إلى الشافعي، وذكر الزركشي في البحر أنه حكاه عن القفال وأبي حامد المروزي واستدلوا بالقرآن، والإجماع، والمعقول.
[ص: 144] أما القرآن فقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولو كان التأسي واجبا لقال: عليكم، فلما قال: لكم، دل على عدم الوجوب، ولما أثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك، وإن يكن مباحا.
وأما الإجماع: فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب ; لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان. وأما المعقول: فهو أن فعله إما أن يكون راجحا على العدم، أو مساويا له، أو دونه، والأول متعين ; لأن الثاني والثالث مستلزمان أن يكون فعله عبثا، وهو باطل، وإذا تعين أنه راجح على العدم، فالراجح على العدم قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا، والمتيقن هو الندب.
وأجيب عن الآية: بأن التأسي هو إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه، فلو فعله واجبا، أو مباحا، وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي.
وأجيب عن الإجماع: بأنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل ; لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر.
وأجيب عن المعقول: بأنا لا نسلم أن فعل المباح عبث ; لأن العبث هو الخالي عن الغرض، فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع به خرج عن العبث، ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومتابعة أفعاله بين، فلا يعد من أقسام العبث.
القول الثالث: أنه للإباحة، قال الرازي في المحصول: وهو قول مالك ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا ; لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين، لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي، وكذلك حكاه ابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب حملا على أقل الأحوال.
واحتج من قال بالإباحة: بأنه قد ثبت أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يكون صادرا على وجه يقتضي الإثم ; لعصمته، فثبت أنه لا بد أن يكون إما مباحا أو مندوبا أو [ص: 145] واجبا، وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل، فأما رجحان الفعل فلم يثبت على وجوده دليل، فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله، كما أنه لا رجحان في فعله، فكان مباحا وهو المتيقن، فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته إلى ما ليس بمتيقن.
ويجاب عنه: بأن محل النزاع - كما عرفت - هو كون ذلك الفعل قد ظهر فيه قصد القربة، وظهورها ينافي مجرد الإباحة، وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد به.
¥