القول الرابع: الوقف. قال الرازي في المحصول: وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار انتهى. وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي، وحكاه أيضا عن الدقاق واختاره القاضي أبو الطيب الطبري، وحكاه في اللمع عن الصيرفي وأكثر المتكلمين.
وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها، والمتيقن مما هو فوقها الندب.
وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة، بل كان مجردا مطلقا، فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال:
الأول: أنه واجب علينا، وقد روي هذا عن ابن سريج قال الجويني: وهو كذلك في النقل عنه، وهو أجل قدرا من ذلك، ولكن حكاه ابن الصباغ عن الإصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية.
وقال سليم الرازي إنه ظاهر مذهب الشافعي، واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد القربة.
[ص: 146] ويجاب عنهم: بما أجيب به عن أولئك، بل الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر ; لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل، وقد اختار هذا القول أبو الحسين بن القطان والرازي في المعالم. قال القرافي: وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية، ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق.
القول الثاني: أنه مندوب. قال الزركشي في البحر وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة، ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير. قال الروياني: هو قول الأكثرين، وقال ابن القشيري في كلام الشافعي ما يدل عليه.
قلت: هو الحق ; لأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يظهر فيه قصد القربة، فهو لا بد أن يكون لقربة، وأقل ما يتقرب به هو المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به، ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة، فإن إباحة الشيء [ص: 147] بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به، فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو تفريط، كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط، والحق بين المقصر والمغالي.
القول الثالث: أنه مباح، نقله الدبوسي في التقويم عن أبي بكر الرازي، وقال: إنه الصحيح واختاره الجويني في البرهان، وهو الراجح عند الحنابلة، ويجاب عنه بما ذكرناه قريبا.
القول الرابع: الوقف حتى يقوم دليل، نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية، قال: واختاره الدقاق وأبو القاسم بن كج قال الزركشي: وبه قال جمهور أصحابنا، وقال ابن فورك: إنه الصحيح، وكذا صححه القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية، واستدلوا بأنه لما كان محتملا للوجوب والندب والإباحة مع احتمال أن يكون من خصائصه كان التوقف متعينا، ويجاب عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا، ومنع احتمال الخصوصية ; لأن أفعاله كلها محمولة على التشريع، ما لم يدل دليل على الاختصاص، وحينئذ فلا وجه للتوقف، والعجب من اختيار مثل الغزالي والرازي له. اهـ
مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعيالْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعْلَمْ أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْقَسِمُ إِلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَا كَانَ مِنْ هَوَاجِسِ النَّفْسِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، كَتَصَرُّفِ الْأَعْضَاءِ وَحَرَكَاتِ الْجَسَدِ، فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ بِاتِّبَاعٍ، وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُخَالَفَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُبَاحٌ.
[ص: 139] الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ وَوَضَحَ فِيهِ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَيْسَ فِيهِ تَأَسٍّ، وَلَا بِهِ اقْتِدَاءٌ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
¥