فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
لقد تعرف إلى خلقه بأنواع التعرفات، ونصب لهم الدلالات، وأوضح لهم الآيات البينات؛ ليهلك من هلك عن بينة؛ ويحيا من حيي بينة، وان الله لسميع عليم.
فارجع البصر إلى السماء وانظر فيها ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في مخلوقات الله إن شاء الله.
ـ[الضبيطي]ــــــــ[10 - 09 - 09, 06:46 ص]ـ
فارجع البصر إلى السماء وانظر فيها، وفي كواكبها، ودورانها، وطلوعها وغروبها، وشمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها، ولا تغير في سيرها!
بل تجري في منازل قد رتبت لها بحساب مقدر، لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها وبديعها قال الله تعالى: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب "!
ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة!
هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها، لا تتعداه ولا تقصر عنه!
ولولا طلوعها وغروبها لما عُرِف الليل والنهار، ولا المواقيت، ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء، ولم يتميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة!
وكيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين، أحدهما: سفرها صاعدة إلى أوجها، والثاني: سفرها هابطة إلى حضيضها تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة حتى تبلغ غايتها منه!
فأحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع، فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء!
وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ!
وإذا كانت بين المسافتين اعتدل الزمان وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الأربعة، واختلفت بسببها الأقوات وأحوال النبات وألوانه ومنافع الحيوان والأغذية وغيرها!
وانظر إلى القمر وعجائب آياته!
كيف يبديه الله كالخيط الدقيق، ثم يتزايد نوره، ويتكامل شيئا فشيئا كل ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم!
فتميزت به الأشهر والسنون، وقام حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والآيات والعبر التي لا يحصيها إلا الله!
ثم إنه سبحانه أمسك السموات مع عظمها وعظم ما فيها وثبتها من غير علاقة من فوقها ولا عمد من تحتها!
قال الله تعالى: " الله الذي خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ".
والنظر في هذه الآيات وأمثالها نوعان:
أحدهما: نظر إليها بالبصر الظاهر، فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود بالأمر.
الثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها، وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإسعاد قوم وشقاوة آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها، من جبر كسر، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة الملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف العدوان!
فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها!
ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عانٍ لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد!
فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه!
وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فياله من سفر ما أبركه وأروحه وأعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته!
سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب.
تأمل العبرة في موضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن ... .
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في مخلوقات الله إن شاء الله.