وذلك لأنّ الصائم متلبسٌ بالعبادة الدائمة كما ذكرنا، ففيه شبهٌ من المصلِّي، وكما أنَّ المصلّي لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتكلّم، فكذلك الصائم، غير أنه لما كان تحريم الكلام على الصائم مع طول وقت الصوم، مشقّته عظيمة، مع ما يترتب عليه من مفاسد، أبيح للصائم الكلام، وشُدّد عليه فيه، وأمّا الصلاة فجعلت الكلمة فيه عمداً تبطل الصلاة.
ومن أسرار الصوم أيضا أن الله تعالى يبسط فيه موائد رحمته لعباده، ويظهر لهم بعض ما في كنوزه من الخيرات، وأعظم ذلك أنَّه يغلق أبواب النار، ويفتح أبواب الجنان.
فتُفتح قلوب المؤمنين إلى نيل ما في الجنة بالعمل الصالح، ويُغلق عليهم ضدُّه، إذ كان بين ذلك الإغلاق للنار، والفتح لأبواب الجنة في السماء، وبين هذا الإغلاق والفتح في قلوب أهل الإيمان، إرتباطٌ وثيق.
ولهذا تفتح أبواب الجنة كلّها ـ كما صح في الحديث ـ لمن يتوضّأ، فيتشهَّد بعد وضوءه، وقال العلماء لأنّه تطهّر من الذنوب بالوضوء، وأتى أعظم العمل الصالح بالشهادتين، فتمّ له من الإيمان ما تمّ، ففتحت له أبواب الجنة.
فكأنَّ مفاتيح أبواب الجنة في نفوس المؤمنين، وقد أعطاهم الله تعالى بإيمانهم القدرة على مالايطيقه أحد من الخلق أجمعين.
كما أعطى الصائم القدرة على أن يوصل إلى الله تعالى المتمجّد في علاه على عرشه العظيم، ما هو أطيب من ريح المسح، فيجد الله تعالى تلك الرائحة الزكيّة من عبده الصائم، وقد قال بعض العلماء: لو لم يكن للصوم إلاّ هذا الفضل العظيم لكفاه.
ومن أسرار الصوم أنَّ الله تعالى يمرنَّ فيه المؤمن ضعيف الإيمان على قتال عدوِّه، فيعلّمه القتال، ويدرّبه على فنونه، ويُبقيه في هذا المعسكر شهراً كاملا، حتّى يصلُب عوده، ويتخّرج منه مقاتلا، قويا، صلبا، لايلين.
وذلك أنَّ الله تعالى يسلسل الشياطين في شهر الصوم، ويمدُّ المؤمن بعبادة الصوم، وهي عبادة متواصلة، ترقى بالنفس إلى كمالات الإيمان، كما ذكرنا، فتصير صورة المؤمن مع عدوِّه، وكأنَّ الشيطان موثقٌ إلى سارية، والمؤمن يوجّه السهام إليه، فيتدرَّب على حربه، شهراً كاملا، فيدع الشهوات، ويتجنَّب قول الزول، ويملك غضبه حتى لو سبَّه أحدٌ، أو شاتمه، فيعوِّد نفسه بذلك على التحكُّم في القوّة الغضبيّة، والقوّة الشهوانيّة، وهما مدخلا الشيطان على الإنسان.
ويقول العارفون في النفس البشرية، أنَّ في مدة الشهر سرٌ خفي، وهو أنّ الإنسان لا يصبر على شيء شهراً كاملا إلاَّ صار له سجيَّة لعام، حتى يأتي رمضان الذي بعده، فيعيد التدريب، وهذا من أسرار تحريم تأخير القضاء إلى أن يأتي رمضان التالي.
كما ذكر العلماء أنَّ العبد لايصبر على شيء عاماً واحداً، إلاَّ صار له سجيّة بقية عمره، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يضرب للتائب سنة، وفي عقوبة الزاني، تغريب عام.
هذا والصائمون في رمضان أقسام
أحدها من يرتقي مع رمضان، وهم الصالحون الذين أعمروا أيامهم كلَّها بالعمل الصالح، فلايجدون في رمضان مجالا لزيادة، فهم مرتقون أصلا، لكن جاء رمضان فزاد ثواب أعمالهم، أضعافا مضاعفة.
وهم صفوة الصفوة، وهم قليل جداً في الأمّة، لكنهم قطب رحاها، وسر قوتها، وعلاها.
والثاني: من يرتقي به رمضان، ثم يبقى في رقيّه، ولاينزل عن درجته بعده، وهم الصالحون الذين كانوا مقصّرين في منازل السائرين، فلمّا جاء رمضان رقى بهم، فعلوْا به، وبقوْا.
والثالث: من يرتقي به رمضان، لكنّه ينحط عن منزلته التي بلغها فيه إلى أدنى منها بعده، وهؤلاء أكثر الصالحين من أهل الإستقامة.
والرابع: من ينتشلهم رمضان من الغفلة، أو المعاصي، فيصلح حالهم بسببه، ويرتفعون عن درجة الظالمين أنفسهم، إلى المقتصدين، وقد يبقون فيها، أو يلتحقون بأحد الأقسام السابقة، في رمضانات أخرى، وهؤلاء هم موكب التائبين في رمضان، وفي كلّ رمضان قوافلٌ للتائبين، بل أكثر التائبين يتخرجّون من مدرسته.
والقسم الخامس: من يمرُّ عليهم رمضان، على أنه مناسبة للتهاني، والموائد، والمجالس، والسهر، يصومونه صيام العادات، كما يصلون صلاة العادات، فيكونون بعد رمضان، وفيه، كما كانوا قبله، طاعاتهم هي هي، ومعاصيهم، وهم غالب الصائمين، نسأل الله أن يهديهم، ويصلح أحوالهم.
وبعد:
فنسأل الله تعالى أن يفيض علينا من بركات هذا الشهر العظيم، من أعلى الدرجات، وأن يرزقنا فيه صيامه، وقيامه، وتلاوة كتابه، على الوجه الذي يرضيه.
كما نسأله سبحانه أن يرزقنا قلوباً سليمة من الحسد، وصدوراً سالمة من الغلّ على المؤمنين، وأن يصلح لنا شؤوننا كلَّها، وأن يجعل عاقبة أمرنا كلَّه رشدا، وأن يعيد أمة الإسلام إلى عزها، ويرفع بالجهاد رايتها آمين.
ـ[سعد أبو إسحاق]ــــــــ[21 - 08 - 09, 09:32 م]ـ
جزاكم الله خيرا