وحمل أبو بكر عبد العزيز بن جعفر هذه الرواية على أن الثوب نسجه مشرك وثني أو مجوسي، كما رواه أبو داود، فإن كان كتابيا صلى فيه بغير غسل، على ما رواه المروذي. قال: وإن صلى فيما نسجه وثني أو مجوسي من غير غسل فلا يتبين لي
الإعادة؛ لأن الأصل طهارته.
وقال ابن أبي موسى: اختلف قول أحمد في الثوب ينسجه يهودي أو نصراني: هل يصلي فيه مسلم قبل أن يغسله أم لا؟ على روايتين، فأما الثوب الذي ينسجه مجوسي فلا يصلى فيه حتى يغسل قولا واحدا.
وهذا كله فيما ينسجه الكفار من الثياب، ولم يلبسوه، فأما ما لبسوه من ثيابهم، فاختلف العلماء في الصلاة فيه قبل غسله:
فمنهم: من رخص في ذلك. قال الحسن: لا بأس بالصلاة في رداء اليهودي والنصراني وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد. قال الثوري: وغسلها أحب إلي.
ومنهم: من كره ذلك، من غير تحريم، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.
وكره أبو حنيفة وأصحابه ما ولي عوراتهم، كالإزار والسراويل. وقال الشافعي: أنا لذلك أشد كراهة.
وقالت طائفة: لا يصلى في شيء من ثيابهم حتى يغسل، وهو قول إسحاق، وحكي رواية عن أحمد، وهو قول مالك - أيضا -، وقال: إذا صلى فيه يعيد ما دام في الوقت.
وفرقت طائفة بين من تباح ذبيحته ومن لا تباح:
قال أحمد - في رواية حنبل - في الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني: إذا لم يجد غيره غسله وصلى فيه، وثوب المجوسي لا يصلى فيه، فإن غسله وبالغ في غسله فأرجو؛ هؤلاء لا يجتنبون البول، واليهود والنصارى كأنهم اقرب إلى الطهارة من المجوس.
وفرقت طائفة بين ما يلي عوراتهم وما لا يلي العورات:
قال أحمد - في رواية حنبل -: لا بأس بالصلاة في ثوب اليهودي والنصراني، إلا ما يلي جلده، فأما إذا كان فوق ثيابه فلا بأس به.
وقال عَبْد الله بن أحمد: سمعت أبي قال: كل ثوب يلبسه يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كان مثل الإزار والسراويل فلا يعجبني أن يصلى فيه؛ وذلك أنهم لا يتنزهون من البول.
ونقل بكر بن محمد، عن أبيه، عن أحمد، فيمن صلى في سراويل يهودي أو نصراني أو مجوسي: أحب إلي أن يعيد صلاته كلها.
ونقل حرب، عن أحمد، قال: لا يصلى في شيء من ثياب أهل الكتاب التي تلي جلده: القميص والسراويل وغير ذلك.
قال ابن أبي موسى: لا تستعمل ثياب المجوسي حتى تغسل، ولا ما سفل من ثياب أهل الكتاب كالسراويل، وما لصق بأبدانهم حتى يغسل.
والمسألة: ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فالأصل الطهارة، والظاهر أنه لا يسلم من النجاسة، وقد يقوى ذلك الظاهر في حق من لا تباح ذبائحه؛ فإن ذبائحهم ميتة، وما ولي عوراتهم؛ فإن سلامته من النجاسة بعيد جدا، خصوصا في حق من يتدين بالنجاسة.
خرج البخاري في هذا الباب:
363 - حديث: الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن مغيرة بن شعبة، قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال: ((يا مغيرة، خذ الإداوة))، فأخذتها، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني فقضى حاجته وعليه جبة شامية، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، ومسح على خفيه، ثم صلى.
وقد سبق هذا الحديث في ((كتاب الطهارة)) من وجوه أخر عن المغيرة، وخرجه في ((كتاب اللباس)) من طريق الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، وفي حديثه: ((وعليه جبة من صوف)).
وفيه من الفقه: جواز الصلاة فيما يجلب من بلاد المشركين من ثيابهم. وجواز الصلاة في الصوف، وجواز الوضوء فيما هو ضيق الكمين وإن لم يتمكن من إخراج يديه منه عند الوضوء، إذا أخرج يديه من أسفله.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن أنس، أن ملك الروم أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مستقة من سندس، فلبسها.
وعلي بن زيد، مختلف في أمره، وليس بالحافظ جدا.
قال الأصمعي: المساتق: فراء طوال الأكمام، واحدتها: مستقة.
والمستقة: بفتح القاف. وتضم - أيضا.
قال الخطابي: يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس؛ لأن نفس الفرو لا يكون سندسا.
قلت: بل الظاهر أن غشاء الفرو كان حريرا، ويدل عليه: ما رواه سالم بن نوح، عن عمر بن عامر، عن قتادة، عن أنس: أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس، فلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعجب الناس منها، ثم أهداها إلى عمر، فقال: يا رسول الله، تكرهها وألبسها؟ قال: ((يا عمر إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها فتصيب بها مالا)). وذلك قبل أن ينهى عن الحرير.
وخرجه البزار وغيره، وخرجه مسلم مختصرا.
وهذا - والله أعلم - هو فروج الحرير الذي قال عقبة بن عامر: أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير فلبسه، ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا، كالكاره له، ثم قال: ((لا ينبغي هذا للمتقين)).
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وخرج مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما قباء من ديباج أهدي له، ثم أوشك أن نزعه، ثم أرسل به إلى عمر - وذكر بقية الحديث.
* * *