تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[ذكريات عن الشيخ البنا الساعاتي - الجزء الحادي عشر والأخير]

ـ[محمد الأمين فضيل]ــــــــ[18 - 03 - 03, 10:54 ص]ـ

السنوات الأخيرة للشيخ الوالد (1)

جمال البنا

كان من المحتمل ان تكون السنوات الأخيرة من حياة الشيخ سنوات هدوء ورضا واستقرار فقد تخلص من اعباء الابناء بعد ان كبروا وتوظفوا وتزوجوا، واستراح من الساعات وتصليحها من وقت طويل واجتاز أزمة الحرب العالمية التي أوقفته حينا عن النشر، فواصل اصدار اجزائه جزءا فجزءا، واكتسب الكتاب مع الزمن دائرة محدودة من الانتشار، ولكنها كانت تكفي مع اقتصاد الشيخ وضبطه لعملية الطبع ـ للاستمرار ـ حتى يحقق أمل حياته في ان يرى الجزء الأخير مطبوعا، لولا ان تطورت الأمور تطورا مأساويا، واصابته ـ وهو بعيد عنها ـ في الصميم، فالعداوة التي احتدمت بين الاخوان ووزارة السعديين وصلت الى قمتها في حل الاخوان المسلمين في ديسمبر من عام 1948، واعتقال الألوف من اعضائها كان منهم أربعة من ابنائه الخمسة، واغلاق شعبها ومصادرة أموالها، أخذت تتطور من سيئ الى أسوأ، حتى انبعث أشقاها ليغتال ابنه البكر في ظلام الليل.

ولو كان الشيخ يكتب مذكرات لاخذنا فكرة عن اللوعة التي اجتاحته، والحسرة التي تملكته عندما اضطرته الليالي السود لأن يحمل بيديه جثمان ابنه العزيز الذي كان ملأ حياته ونور بصره وان يودعه قبره، وحيدا لا تحضره عشرات الألوف التي كانت تشق بهتافها عنان السماء «الله أكبر ولله الحمد»، ولكن تحاصره أسنة حراب البوليس، لا يعلم إلا الله وحده ما انتاب الشيخ هذا اليوم وما تلاه من أيام، وما كان يفكر فيه خلال الليالي الطويلة التي اعقبت هذا الحدث، وكم سكب من دمع مدرارا، وما هي الهموم والآلام والأحزان التي كانت تعصف به وحيدا في مكتبه .. وبأي عين كان ينظر الى المستقبل القاتم المدلهم. بعد ان قتل ابنه البكر واعتقل بقية ابنائه واضطروا الى ترك الشقة الرحبة الواسعة، وما فرضه الحكم العسكري من إرهاب داخل الحواري والازقة والقرى النائية، و «مشط» البيوت بيتا بيتا وأصاب كل من له علاقة بالإخوان، لكن الشيخ كان رجلا مؤمنا، كان إماما في علمه وفقهه وفهمه للإسلام وفيم أذن تفيد هذه المعرفة ان لم يكن في مثل هذه الحوادث الجسام وفي مواجهة الآلام، كان الشيخ يعلم ان البلاء قسمة المؤمنين، وان الشهادة تاج المجاهدين فحال ذلك دون ان يتهاوى وتماسك، وأخفى ما يحتمل بين جنبيه من لوعات وسجل في دفتره العتيق في يوم السبت 14 منه (أي ربيع الثاني سنة 1368) الموافق 12 فبراير سنة 1949 في الساعة التاسعة مساء اغتيل المرحوم حسن ابني ـ فهدم بفقده ركن الإسلام ـ رحمه الله رحمة واسعة.

وأرسل إلينا في المعتقل خطابا يواسينا ويوصينا بالصبر والاحتساب، ويذكرنا ان البلاء هو حظ الانبياء، فالأولياء فالأمثل فالأمثل، وقد أخذ الاخ عبد البديع صقر ـ رحمه الله ـ يقرأ الخطاب على المعتقلين بالطور، وكان عجبه لا ينتهي من أسلوب الخطاب ودقة كتابته وعدم وجود شطب أو خلل فيه.

وأصاب مقتل الامام حسن البنا الأسرة بضربة لم تفق منها. صحيح ان الإمام الشهيد رحمه الله لم يكن يؤثر اشقاءه بشيء ولكنه كان للأسرة ذخرها، وفخرها وأملها، وكانت تربطه بكل فرد من أفراد الاسرة وشيجة تضرب في أعمق أعماق النفس، وصلة وثيقة من الطفولة حتى الرجولة. فضلا عن الصورة الدراماتيكية والملابسات الارهابية التي وقع بها هذا الخطب الجلل، من أجل ذلك فإن الشيخ الوالد لم يعد أبدا ما كان عليه قبله، حتى وان كان قد استأنف العمل، كما سنرى، أما الوالدة رحمها الله فقد كان مصابها، يجل عن الوصف، وأذكر انها قبل الحادث كانت تسير بجانبي في شارع الحلمية ودقات حذائها تضرب الأرض بقوة، أما بعده فقد ظلت لمدة طويلة لا تستطيع ان تجلس الا على عجلة مطاطية منفوخة بالهواء بعد ان اصبحت جلدا على عظم وقد ألفت ـ حتى بعد خروجنا من المعتقل بعد الحادث بعام تقريبا ـ ان تخرج كل يوم في موهن الليل لتزور قبر ابنها، وعندما كانت لا تجد وسيلة خاصة للركوب، كانت تنتظر لأكثر من ساعة ظهور أول ترام يذهب الى الإمام الشافعي، وفشلت كل محاولات اثنائها عن ذلك أو اقناعها بالانتظار حتى تشرق الشمس. اما الشقيقة فوزية فقد كان مصابها مضاعفا اذ أصيب زوجها وقتل أخوها فاصبحت مثل جليلة في القديم وتمزقت ما بين

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير