وفي سنن الدارمي عن الحسن قال: كان معقل بن يسار رضي الله عنه يتغدى فسقطت لقمته فأخذها فأماط ما بها من أذى ثم أكلها فجعل أولئك الدهاقين يتغامزون به فقالوا له: ما ترى ما يقول هؤلاء الأعاجم يقولون: انظروا إلى ما بين يديه من الطعام وإلى ما يصنع بهذه اللقمة فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت لقول هؤلاء الأعاجم: «إنا كنا نؤمر إذا سقطت من أحدنا لقمة أن يميط ما بها من الأذى وأن يأكلها» إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه في سننه بنحوه وعنده قال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله r لهذه الأعاجم «إنا كنا نأمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها فيميط ما كان فيها من أذى ويأكلها ولا يدعها للشيطان» إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد اشتملت هذه الأحاديث على عدة فوائد وآداب من آداب الأكل:
الأولى: مشروعية الأكل باليد بخلاف ما عليه المتشبهون بالإفرنج وأضرابهم من الأكل بالملاعق واستقذار الأكل بالأيدي. وفعل أعداء الله وأشباههم أولى بالاستقذار من فعل المسلمين. وذلك أن أحدهم يدخل الملعقة أو بعضها في فيه ثم يخرجها وقد علق اللعاب بها فيغمسها في الطعام بما علق بها ثم يدخلها في فيه مرة أخرى وهكذا يفعل إلى أن يفرغ من أكله وأما الأصابع فإن الآكل بها لا يدخلها في فيه وإنما يدخل اللقمة فقط وتكون الأصابع من خارج فيه فلا يعلق بها اللعاب كما يعلق بالمعلقة.
والقول في أكل اللحم بالأشواك التي أحدثها أهل المدينة من الإفرنج ومن يتشبه بهم كالقول في الأكل بالملاعق سواء فكلاهما أولى بالاستقذار من الأكل بالأيدي. والأكل بهما خلاف هدي رسول الله r الذي هو الغاية في النظافة والنزاهة والبعد عما يكره ويستقذر.
وقد أجاز بعض الفقهاء الأكل بالملاعق وبعضهم كره ذلك قال الآمدي السنة أن يأكل بيده ولا يأكل بملعقة ولا غيرها ومن أكل بملعقة وغيرها أخل بالمستحب وجاز.
وقال الحجاوي في الإقناع: ولا بأس أن يأكل بمعلقة قال البهوتي في شرحه ربما يؤخذ من قول الإمام أكره كل محدث كراهيتها.
قلت: والصحيح أن الأكل بالملاعق مكروه لأنه من فعل الجبابرة والمترفين ومن فعل طوائف الإفرنج وأشباههم من الكفرة. فأما إن كان في اليد ضرر يمنع من الأكل بها أو كان الطعام لينا جدا بحيث لا تمسكه اليد فلا كراهة في الأكل بالملعقة حينئذ والله أعلم.
الثانية: استحباب الأكل بثلاث أصابع قال النووي: ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا وغيره مما لا يمكن بثلاث وغيره ذلك من الأعذار انتهى.
الثالثة: استحباب لعق الأصابع والصحفة بعد الطعام ليحصل للآكل ما في الطعام من البركة. ولعق الصحفة ولحسها هو سلتها بالإصبع ولعق ما يعلق بالإصبع منها كما هو معروف ومعمول به عن المتمسكين بالسنة.
قال الخطابي: سلت الصحفة تتبع ما يبقى فيها من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه وقد بين النبي r العلة في لعق الأصابع وسلت الصحفة وهو قوله فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له يقول لعل البركة فيما علق بالأصابع والصحفة من لطخ ذلك الطعام.
وقد عابه قوم أفسد عقولهم الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح أو مستقذر كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه فإذا لم يكن سائر أجزاءه المأكولة مستقذرا لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذرا كذلك.
وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسه أصابعه بباطن شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأسا إذا كان الماس ولممسوس جميعا طاهرين نظيفين وقد يتمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم ير أحد ممن يعقل أنه قذارة أو سوء أدب فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر حس ولا مخبر عقل انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أنه إذا اجتمع على الأكل من الصحفة اثنان فأكثر فكل يلعق ما يليه منها ولا يعاب على من لم يلعق ما يلي غيره.
الفائدة الرابعة: استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد إماطة ما علق بها من أذى قال النووي هذا إذا لم تقع على موضع نجس فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولابد من غسلها إن أمكن فإذا تعذر أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان انتهى.
¥