وقال (صاحب الدر المختار شرح تنوير الأبصار): لا تقبل شهادة من يغني للناس؛ لأنه يجمعهم على كبيرة، وكذلك لا تقبل شهادة من يستمع الغناء، أو يجلس بمجلس الغناء أو مجلسا آخر من مجالس الفجور.
وبهذا جزم الزيلعي في (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق) (جـ4 ص120). وكذلك جزم به صاحب الفتاوى الهندية في فتاويه.
فمذهب أبي حنيفة في ذلك أشد المذاهب. وقوله فيه أغلظ الأقوال قاله ابن القيم في (الإغاثة). وقال فيه -أيضا- (وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى ضرب القضيب، كما صرحوا بأنه معصية توجب الفسق فترد به الشهادة كما قالوا: إن سماعه فسق والتلذذ به كفر).
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها المعازف والملاهي: (ادخل عليهم بغير إذن للنهي، لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض) انظر (إغاثة اللهفان).
2 - وهو مذهب الإمام مالك وسائر أهل المدينة في ذلك الوقت سوى إبراهيم بن سعد الزهري وعبيد الله بن الحسن العنبري. فقد قال الإمام مالك حينما سئل عن الغناء (إنما يفعله عندنا الفساق) يعني بذلك إبراهيم ومن شاركه.
وعن أبي الطيب الطبري: أن مالك بن أنس (نهى عن الغناء وعن استماعه) وقال: (إذا اشتري-إنسان- جارية فوجدها مغنيه كان له ردها بالعيب -يقصد بذلك العيب (كونها مغنية). وقال: وهذا مذهب سائر أهل المدينة).
وذكر ابن عبد البر في كتاب (الكافي في فقه أهل المدينة المالكي): (إسقاط شهادة من يستمع الغناء أو يغشى المغنين) انظر (الكافي) (2/ 205).
وذكر الحطاب في (شرح مختصر خليل) عن ابن عبد الحكم (أن سماع الغناء بغير آله إذا تكرر منه يكون قادحا في المروءة وأما الغناء بآلة: فإن كانت ذات أوتار كالعود، والطنبور، والمزمار فممنوع) انظر (6/ 153).
والحاصل: أن مذهب الإمام مالك وسائر أهل المدينة المعتبرين متفقون على كراهة الغناء ومنعه إلقاءً واستماعا.
وإن ما يدعيه ابن حزم الظاهري في ذلك المضمار فهو باطل. كما سنذكره إن شاء الله.
3 - والتحريم -أيضا- هو مذهب الشافعي كما هو معروف لدى العلماء فقد صرح في (كتاب الأم): 6/ 214، (بأن الرجل الذي يغني فيتخذ الغناء صناعة لا تجوز شفاعته؛ لأنه من اللهو الذي يشبه الباطل، وأن من يتخذ الغلام والجارية المغنين ويجمع عليهما أي يجتمع هو والناس على استماعهما والنظر إليهما -فهذا سفيه ترد به شهادته) قال: (وفي الجارية أكثر -سفها وأشد نكارة- لأن فيه سفاهة ودياثة .. ).
(وإنما جعل هذا الرجل سفيها فاسقا، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا إلى باطل كان سفيها وفاسقا). قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس):
وعن أبي الطيب الطبري: (أن من أضاف إلى الشافعي إباحة الغناء والضرب بالقضيب فقد كذب عليه) حكاه عنه ابن الجوزي.
وحكي ابن الصلاح: (الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فالخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل الشبابة منفردة والدف منفردا .. ).
وقال ابن القيم في (الإغاثة): (إن أصحاب الشافعي العارفين بمذهبه صرحوا بتحريم الغناء، وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب وابن الصباغ).
انظر: ملحق كتاب (تحريم النرد والشطرنج والملاهي) ص317.
وحكي عن أبي إسحاق في التنبيه: (أنه لا تصح الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر ولم يذكر فيه خلافا).
قد تضمن كلام الشيخ أمورا: أحدهما: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابل محرم، وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم، وإنما رخص في ذلك من قل حياؤه وغلبه هواه قاله ابن الجوزي.
وذكر الهيتمي في الزواجر: (أن الشافعية استدلوا على تحريم المزامير بأنها شعار شربة الخمور). انظر (الزواجر) ص2/ 278.
فخلاصة القول: أن الأغاني المطربة بالمعازف وآلات الطرب محرمة عند المذهب الشافعي. وأن كل ما حكي عن الشافعية من إباحة المزامير والأوتار فهو غير صحيح.
¥