ـ[أبو عمار السلفي]ــــــــ[15 - 10 - 09, 03:20 ص]ـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقبل الجواب المباشر على هذا السؤال نود أن نمهد بمقدمة توضيحية عامة بما يجري في نفس المرء من إرادة الحرام دون أن ينطق به بلسانه، أو يعمله بجوارحه، هل يؤاخذ عليها أم لا؟ فنقول:
ما يجري في نفس المرء من إرادة فعل الحرام أقسام:
أولها: أن يهم بفعل المحرم ثم يتركه خوفاً من الله تعالى، فلا يؤاخذ بمجرد الهم، ويثاب على الترك، لأنه من أجل الله، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها حسنة، إنما تركها من جرَّاي" أي من أجلي.
ثانيها: أن يهم بفعل المحرم ثم يتركه خوفاً من المخلوقين أو مراءاة لهم، فالصحيح أنه يأثم، وكذا لو سعى في حصوله ما أمكنه، ثم حال بينه القدر أثم أيضاً، لأن من سعى في حصول المعصية جهده ثم عجز عنها فقد عمل.
ثالثها: أن تنفسخ نيته، وتفتر عزيمته من غير سبب منه، فهذا على قسمين:
القسم الأول: أن يكون الهم بالمعصية خاطراً لم يساكنه صاحبه، ولم يعقد قلبه عليه، بل كرهه ونفر منه، فهذا معفو عنه، وهو كالوساوس الرديئة التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذاك صريح الإيمان".
القسم الثاني: العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم ويساكنها صاحبها، فهذا نوعان:
النوع الأول: ما كان مستقلاً بنفسه من أعمال القلوب كالشك في الواحدانية والنبوة أو البعث، وكذا سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كالعجب والحسد وغيرهما، فهذا يؤاخذ به العبد.
النوع الثاني: ما لم يكن من أعمال القلوب، بل كان من أعمال الجوارح كالقتل والسرقة وشرب الخمر، وغير ذلك، فهذا إذا أصر العبد على إرادته والعزم عليه، ولم يظهر له أثر في الخارج أصلاً، ففي المؤاخذة به ثلاثة أقوال:
القول الأول: يؤاخذ به، وبه قال كثير من الفقهاء والمحدثين، وبعض هؤلاء كابن جرير الطبري قصر المؤاخذة على المحاسبة، فقال ما معناه: يوقفه الله يوم القيامة ويسائله، ثم يعفو عنه ولا يعاقبه.
وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل" حملوه على الخطرات والوساوس العابرة.
القول الثاني: لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقاً، ونسب هذا القول إلى الشافعي وهو قول ابن حامد، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل" متفق عليه.
القول الثالث: وهو محل تعلق سؤال السائل، أنه لا يؤاخذ بالهم بالمعصية إلا إن همَّ بارتكابها في الحرم، لما رواه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما من عبد يهم بخطيئة فلم يعملها، فتكتب عليه، ولو هم بقتل إنسان عند البيت، وهو بـ "عدَن أَيْين" أذاقه الله من عذاب أليم، وقرأ عبد الله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، وروي هذا الأثر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح، قال ابن كثير: وقفه أشبه من رفعه، وكذا صححه ابن حجر موقوفاً.
وبمقتضاه أخذ الضحاك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ورجحه ابن القيم حيث قال: ومن خواصه - الحرم - أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات، وإن لم يفعلها.
قال الله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
وقال أيضاً: فكان ذكر الباء في قوله - بإلحاد - إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة، وإن لم تكن جازمة.
وقول السائل: ولماذا تكون المعصية بمعصيتين إن كان مقصوده به هو إنه إذا كان الهم معصية، وفعل ما هم به معصية أخرى صار مرتكباً معصيتين؟ - إذا كان هذا هو محل إشكال السائل - أجاب عن هذا الإشكال ابن رجب فقال: ومتى اقترن العمل بالهم فإنه يعاقب عليه (العمل) سواء كان الفعل متأخراً أو متقدماً، فمن فعل محرماً مرة ثم عزم على فعله متى قدر عليه، فهو مصر على المعصية، ومعاقب على هذه النية؛ وإن لم يعد إلى عمله إلا بعد سنين عديدة، وبذلك فسر ابن المبارك وغيره الإصرار على المعصية. وبكل حال فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير مضاعفة، فتكون العقوبة على المعصية، ولا ينضم إليها الهم بها، إذ لو ضم إلى المعصية الهم بها لعوقب على عمل المعصية عقوبتين، ولا يقال: فهذا يلزم مثله في عمل الحسنة، إنه إذا عملها بعد الهم بها أثيب على الحسنة دون الهم بها، لأنا نقول: هذا ممنوع، فإن من عمل حسنة كتبت له عشر أمثالها، فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاءً للهم بالحسنة. والله أعلم. ا. هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه - الحرم - لا كميتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها، وصغيره جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه. هذا فصل النزاع في تضعيف السيئات. والله أعلم. ا. هـ.
وقد قال الله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160].
ولمزيد الفائدة يمكن الأخ السائل مراجعة جامع العلوم والحكم لابن رجب، فقد أفاد وأجاد حول هذا الموضوع.
وأما الآية المسؤول عنها، فهي الآية (125) من سورة الأنعام (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).
والله أعلم.
(إسلام ويب)
وللشوكاني تعليق على هذا في كتابه (فتح القدير)
حين يذكر تفسير قوله تعالى في سورة الحج: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ... ).
¥