تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالمشي له صورٌ عدة ولكن الفرار ليس له إلا صورة واحدة، الماشي يمشي وقد يشغل فكره بأمور عدة أو بما يراه أثناء مشيه، ولكن الفارَّ لا تسيطر على عقله إلا فكرة واحدة وهي النجاة، فلمن انشغلوا بدنياهم أقول لهم فروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ومن فضل الكريم الرحيم علينا معاشر المؤمنين أنه لم يجعل من عملية الفرار إليه عملية صعبة ولم يجعلها في طريق وعرة بل مهد لنا سبحانه وتعالى بفضله وكرمه طريق الفرار إليه ويسر لنا سبله فأنت تستطيع أن تفر إلى الله على كل حال من أحوالك وأنت سائر وأنت واقف وأنت قاعد وأنت نائم وأنت في بيتك وأنت في حيك وأنت في عملك أو سوقك تستطيع الفرار إلى الله؛ فأنت بخروجك للكسب لتعف نفسك وأهلك عن الحرام تفر إلى الله، بقيامك للصلاة تفر إلى الله، بذكرك لله تفر إلى الله، بقراءتك للقرآن تفر إلى الله، بالصدقة تفر إلى الله، بإهداء كتب الخير وأشرطة الخير للمسلمين تفر إلى الله، بصلتك لرحمك تفر إلى الله، بأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر تفر إلى الله، بتربيتك لأولادك وبنياتك على هدى الشريعة تفر إلى الله.

معاشر الفارين إلى الله إن من رحمة الله تعالى بنا وبكم أنه إذا علم من عبده صدق الفرار إليه أعانه ووفقه ولم يتركه وحده واستمعوا معي إلى وعد من لا يخلف الميعاد يوم أن قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (6). ويقول جلت عظمته: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (7). وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)) (8).فماذا تنتظروا أيها الأحبة في الله هذه الطريق ميسرة وهذا ربكم معين لكم ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين. أيها الأحبة في الله إني أدعوكم ونفسي لنتأمل في حالنا هل نحن فارون إلى الله كما أمرنا؟ هل إذا نادى منادي الله حي على الصلاة حي الفلاح فررنا إلى بيوت الله نرتجي الثواب من الله؟ أم أنا ننتظر الإقامة فإذا قامت الصلاة قمنا للوضوء متثاقلين لا يهمنا أن تفوتنا تكبيرة الإحرام أو تفوتنا ركعة أو ركعتان؟ هل إذا سمعنا منادي الله ينادي في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم فزعنا من فرشنا وانتزعنا أنفسنا من الفرش الوثيرة والأحضان الدافئة وفررنا إلى الله؟ هل فررنا إلى الله بتلاوة شيء من كتابه في كل يوم؟ هل .. وهل .. وتطول الأسئلة وكل أدرى بنفسه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ () وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (9).

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آ له وصحبه وسلم. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وفروا إلى ربكم واعلموا رحمني الله وإياكم أن معنى الفرار إلى الله أن لا يشغل العبد فكره أو قلبه بشيء من الدنيا وإنما أن تكون الفكرة المسيطرة على حياته هي طلب الرضوان من الله عند ذلك يسخر العبد كل دنياه لله فهو إذا عمل فلله وإذا أكل فلله وإذا شرب فلله وإذا أحب فلله وإذا أبغض فلله، إذا سيطرت هذه الفكرة على أفراد المجتمع يختفي ما يراه العبد من صراع على الدنيا واقتتال عليها وتحولها من وسيلة إلى غاية، أخي الحبيب هاهو عمرك ينصرم وتطوى صفحته بكل ما حملته وعملت فيه من خير أو شر فإن كنت في سيرك إلى الله فيما مضى من عمرك بطيئاً ولم تفر إلى الله حق الفرار ففر إليه الآن من هذا المكان المبارك وفي هذا اللحظات الفاضلات اجعل منها نقطة انطلاقك في فرارك إلى ربك وخالقك، اجعلها لحظة استجابة لنداء الله يوم أن ناداك ففروا إلى الله، يا عبد الله إلى متى التسويف؟ إذا لم تفر إلى الله الآن وأنت بكامل قوتك وعافيتك فمتى تفر؟ أتفر بعد أن يشيب شعرك وتضعف قوتك وتتراكم على جسدك الأمراض والعلل؟ أتفر إلى الله بعد أن تشخص عينك وتشل أطرافك وتصبح جثة هامدة؟ كم من مفرط فرط وفرط حتى فجاءه الموت فقام يصرخ بصوت ملؤه الندم: { ... رَبِّ ارْجِعُونِ () لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ () فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ () فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ () وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ () تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (10).


([1]) مريم:71 - 72. (2) الذاريات:50. (3) فاطر:6. (4) الحديد:20. (5) الملك: 15. (6) العنكبوت:69. (7) النحل:128.
(8) البخاري، كتاب التوحيد، ح6856. (9) الذاريات:50 - 51.المؤمنون:99 - 104.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير