واليوم هأنا واحد من هذه الأمة يحزنني ويؤلمني أن أرى كثيرًا من الأصدقاء الملتزمين أصبحوا على طرفي نقيض في هذه المسألة ولا يخفى عليك ما تجره هذه المعضلة من ويلات بين الشباب المسلم.
ثم أن هناك مسألة أو عبارة عن ضرب مثال حي لتتبين الأمور على الوجه الأكمل وهو كالتالي:
لو أنني مثلا اتهمت بشيء ما وكانت النتيجة أن أمثل في المحكمة أمام قضائهم حتى يسمعوا أقوالي أو أبرئ نفسي إلى غير ذلك من الإجراءات ولكني لخوفي على ديني وحتى لا أقع في الكفر من وجهة نظر الفرقة الأولى لم أستجب لدعوتهم ولم أذهب.
بعد هذا القرار قد أصبح مطاردًا من الشرطة مثلا وقد يحكم علي غيابيا بما يراه القاضي خاصة إذا كان الخصم موجودًا مع العلم أني بريء كبراءة الذئب من دم يوسف وبكل سهولة ممكن أن أثبت براءتي, ومع ذلك لم أفعل للخوف من الوقوع في الكفر, ثم يترتب على هذا أن أترك بيتي الذي قد بذلت فيه جهدا طويلا للحصول عليه وتأثيته وأشياء أخرى كثيرا تتأثر بمجرد أنني أصبحت مطلوبا لدى الشرطة أو حكم عليك غيابيًا.
مع العلم أنه بالخطاء قد تأتيك أي رسالة من المحكمة لتمثل أمامها لأي أمر ما لم يكن في الحسبان مثال ذلك دعوة من طرف أصحاب ضريبة التلفاز أو من طرف أصحاب ضريبة البلدية أو من شركات التأمين وإلى غير ذلك من المؤسسات العمومية وبمجرد ذهابك يزول هذا الخطاء وإن لم تفعل يتحول هذا الخطاء البسيط إلى مصيبة فوق رأس صاحبها تطول عقباها.
فهذا المثال الذي ضربته لكم ما هو إلا شيء بسيط مما يلاقيه المسلم في هذه الديار، لأن المعاملات هنا كلها تتم عبر المحاماة والمحاكم فكيف نتعامل مع هذا الواقع؟
فهل إذا أخذ الإنسان حذره وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ولم يذهب إلى هذه المحاكم للاسترجاع حقه أو لتبرئة نفسه من باب الاحتياط رغم ما سوف يتسبب فيه لنفسه ولعائلته من أذى فهل هذا الفعل محمود أو غير محمود من طرف الشرع؟ وما هو الواجب الشرعي في هذه الحالة؟
إني أنشدكم الله الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله ولا معبود بحق سواه أن تفتونا بما يرضي الله في هذه المشكلة. فوالله إننا لا ننام أحيانا من التفكير في المسألة وأصبحنا نخاف من أي فعل قد يؤدي بنا إلى الوقوف أمام المحاكم حتى ولو كان الحق في جانبنا.
فإني أتمنى أن يكون ردكم مفصلا ومبينا لبعض القضايا التي قد تكون تتعلق بالموضوع مثلا:
قضية الصحابة أمام النجاشي ومحاولة تبرئة الذمة.
قضية النبي يوسف عليه السلام لما قال لخادم الملك: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.
حالة الأمة اليوم وعدم وجود محاكم شرعية أو سلطان للمسلمين في دول الغرب يردع الظالم وينصف المظلوم هل هذه الصورة هي نفس الصورة أو تشابه التي من أجلها كفر الله من يريد أن يتحاكم إلى الطاغوت؟ وهل إذا تبنى الطاغوت حكما من الإسلام وطبقه هل يصبح ذلك الحكم جورا بعدما عدلا مع العلم أن تطبيقه هذا لا يدخله في الإسلام؟ وكيف نفهم معنى قول الإمام ابن تيمية عندما ذكر أن الدولة الكافرة إذا حكمت بالعدل تدوم، فما معنى العدل هنا؟ أهو كل ما وافق الشرع أم هو شيء آخر؟
الجواب: نشكرك على اهتمامك بأمر دينك، وحرصك على براءة الذمة على البعد عن المشتبهات، وعن الحكم بغير ما أنزل الله، وأنت تعلم أن الكثير من الدول يحكمون بالأنظمة والقوانين الوضعية، التي استحسنوها، ورأوا أنها في غاية المناسبة، ولو كانت تصادم الأدلة الشرعية، وعم ذلك الكثير من الدول الإسلامية، فلأجل ذلك لاشك أنه قد يضطر المواطن إلى الترافع والتخاصم عند تلك المحاكم القانونية، وعند الضرورات تباح المحظورات، فمتى كان الإنسان المسلم له حق ثابت وخصمه ظالم، ولا يتمكن من أخذ حقه إلا بعد الترافع إلى تلك المحاكم، فإنه يجوز أن يجلس عند أولئك الحكام، ويثبت حقه بالوثائق، والبينات، والقرائن، وسواء باشر المخاصمة بنفسه أو وكل محاميًا يخلص له حقه، بعد أن يتأكد ثبوت ذلك الحق، ويعرف أنه إذا لم يترافع إلى ذلك القاضي سوف يضيع حقه، ويتمكن ذلك المعتدي من أخذ حقوق المسلمين، ويتسلط الظلمة على المسلمين، فيأخذون أموالهم، ويعتدون على أبدانهم، وأعراضهم، وحرماتهم، إذا عرفوا بأنهم لا يرفعون إلى الدولة، ولا يخاصمون إلى أولئك الحكام، فتضيع حقوق المسلمين، وتهدر دماؤهم، وتستباح أعراضهم.
فنقول: إن على المسلم أن يسعى في تخليص حقه، إذا لم يقدر عليه بالصلح، أو بنصب حاكم إسلامي يحكم بشرع الله، فإنه له أن يحضر عند أولئك الحكام، ولو كانوا يحكمون بالقوانين الوضعية.
وأما قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، فإن المراد من يختارون الحكم بغير ما أنزل الله، مع وجود من يحكم بشرع الله، كما إذا اختاروا التحاكم إلى من يقبل الرشوة، أو إلى الكهان والسحرة، وتركوا التحاكم إلى القضاة الشرعيين، فهؤلاء ينطبق عليهم الوعيد المذكور في هذه الآية، ولهذا قال في حقهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}، فهكذا يكون الحكم بغير ما أنزل الله.
وقد علم أن في تلك القوانين ما يوافق الشرع، ويحكم فيه بالعدل، ويصل المستحق إلى حقه، وأن في ترك الترافع إليها ضياع للحقوق، واتهام للأبرياء إذا حكم عليهم غيابيًا، بحيث يتهمون بخيانة أو مظلمة، ويكون من آثار ذلك مطالبتهم، ومطاردتهم، والاعتداء عليهم، وربما يفارقون بلادهم وأهليهم وأولادهم خوفًا من تطبيق تلك الأحكام الظالمة التي تدينهم بحقوق غير صحيحة، فنقول: لا مانع من حضورهم وإثبات براءتهم، حتى يأمنوا على أنفسهم وعلى أهليهم، وحتى لا يتهم المسلم المستقيم بالظلم والعدوان وأخذ الحقوق، وهو برئ من ذلك. والله أعلم.
قاله وأملاه
عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين
23/ 12/1426هـ
¥