[وهج المعرفة]
ـ[عمر الريسوني]ــــــــ[26 - 10 - 09, 06:05 م]ـ
سبحان من له المجد والثناء والحمد والبقاء ذو الجلال والاكرام.
وصلوات منك ربي ورحمة الى خير الخلق والمرسلين محمد وآله وصحبه ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين.
اللهم اني أسألك أن تعصمني من الزلل، وأن تجعل لي من الأمل ما ترضاه لي من عمل، وارزقني في أموري حسن العواقب.
من أسرار الله تعالى المودعة في عباده مضغة القلب
والقلب مضغة للتفقه (لهم قلوب لا يفقهون بها) الآية
ولكي يفقه القلب عليه النظر والتبصر، ولا تبصر بدون تعلم وعلم ومعرفة، فالقلب الأعمى لا يبصر حقائق الايمان ..
فقد تتعظ القلوب في مشهد عابر من مشاهد الحياة، أو تأمل عميق مع النفس، أو الاتعاظ من الحكم والتجارب البالغة الأثر في النفوس.
واذا تعلمت القلوب تفقهت ووعت وأدركت معدن كنهها الحقيقي وعلمت غاية غاياتها فارتقت الى مدارك أرقى.
وليس ذلك بالأمر السهل و الهين فالقلوب سميت قلوبا بتقلباتها الغامرة والمثيرة، ولا تترسخ فيها ادراكات المعرفة الا بالعلم والمجاهدة مع النفس.
والقلب لا ينال مطالبه الا بالتقوى والايمان وأن تعرف نفسك بالذل والعجز والقصور وافتقارك الشديد لمالك قلبك فتجعل همك واشتغالك به في خوف وحسرة ووجل حتى لا تفقده في لحظات الغفلة والنسيان لأن قلبك هو الصلة الموصولة مع ربك العزيز الشأن فمتى فقدت قلبك فقدت ربك ومن فقده فهو يعيش في غفلة مريبة.
فحضور القلب ضروري في العبادات حتى يتزكى العمل الخالص مع الله العليم بالسرائر.
قال اسحاق بن ابراهيم: لأن تردد قلبك الى الله تعالى ذرة خير لك من جميع ما طلعت الشمس.
فهذا القلب مضغة نورانية بحاجة الى من يحرك جنوده وملكاته و بواعثه لينهل من حقيقته ليسمو ويترقى الانسان بمداركه وبكيانه النفسي والروحي، وكلما ترسخت فيه حقائق الايمان العظيمة ناله شوق عظيم وتآلف وقرب وأنس ومحبة بنور التأييد.
وصفاء القلوب اذا صفت من أدناس الشهوات، وتطهرت من الغفلات، وتنقت من الكدورات، والقلوب السليمة هي التي سلمت من آفات النفس الذميمة.
قال الجنيد صفاء القلوب على حسب صفاء الذكر، وخلوصه من الشوائب.الكواكب الدرية
وبقدر اقبالك على الله يكون قرب القلب منه سبحانه لأنه مضطلع على القلوب في كل لحظة وحين فاشغل قلبك به وأنت تذكره وتستشعر عظمته وجلاله.
والعبد الموقن في مجاهداته يجب أن يعلم أن منتهى معرفته أنه بين يديه سبحانه فهو الذي يريك ويطلعك على آياته، قال الملائكة الكرام قوله تعالى في محكم كتابه: (وما منا الا له مقام معلوم) الصافات، 164، فاذا كان هذا شأن الملائكة الكرام في المقامات فما بالك بعباده المتقين وقوله تعالى: (أولئك المقربون) الواقعة، 11
فذكر سبحانه المقربون بعين الجمع فعلم أنه بتقريب ربهم، والقرب ليس قرب مسافة بل مقربة قلوبهم من بساط المعرفة، والمعرفة تتضمن الحقائق الايمانية ذكرا وحبا وخوفا ورجاءا، فالمحب لا تفتر محبته فهو دائم الشوق الى مولاه وتقوية المحبة تكون بالهمة فمن ملت همته ضعفت محبته، ولولا أن الله تعالى يبدأ العبد بالمحبة ويهديه لما أحبه لما وصل الى شيء، ولو سلك عبد من عباده طريقا يريد به وجه الله تعالى فتح الله له من أبواب الرحمة ما يخفى على البشر وقربه من بساط هذه المعرفة وعلمه ومكنه برحمته.
والطريق المفتوح هو ما جاء به الشرع عمقا وتفصيلا والتزود بخير الزاد والتخلق بمحامد الأخلاق.
فالمطلوب والمقصود والغاية هو الله سبحانه وتعالى، فليس من استأنس بالذكر كمن استأنس بالمذكور ولو عرف العبد ربه ما اشتغل بسواه، فمساكين هؤلاء المماليك نظروا بعيونهم الى الملكوت المخلوق ورضوا بالجنات المخلوقة فبقوا معها خالدين فيها، أما الملوك فلم يرضوا بها فنظروا بقلوبهم الى ملك الملوك فبقوا معه في مقعد صدق.
فالعبد عليه ألا ينسى الله ويستحضر عظمته وجلاله ويعلم أنه سبحانه مضطلع عليه في كل وقت وحين، فطرفة عين في غفلة عن الله لأهل المعرفة شرك.
ليس تخلو جوارحي منك وقتا
هي مشغولة بحمل هواك
وهذه المعرفة غاية العبد المؤمن وانتباهه لله دون نسيانه تبقي قلبه منشرحا وحيا يستضيء من نوره
وهنا عمق المعادلة الايمانية المعرفية للعبد في عبادة ربه، قال تعالى: (وما خلقت الانس والجن الا ليعبدون) الذاريات، 56، وفي رواية لابن عباس (الا ليعرفون)، وقال عز من قائل: (وجعلنا له نورا يمشي به) الأنعام، 122.
جاء في الحديث النبوي: (وسعني قلب عبدي المؤمن) أي وسع معرفة دون احاطة
وكما قال ذو النون: (المعرفة اطلاع الخلق على الأسرار لمواصلة لطائف الأنوار).
ان الله تعالى هو الذي ينور قلوب عباده لعبادته ومعرفته برحمته وهذه المضغة النورانية الملكوتية يحملها كل فرد من عباده بين جوانبه في محل أرفع في العقل يتطهر من الأدناس ليبصر حقائق الايمان، فيعلم أن الغاية والمبتغى والمنتهى الله جل جلاله ولكل عبد من عباده حظ ونصيب ومقام قرب من هذه المعرفة التي لا رسم لها بل معرفة ملكوتية.
و من اشراقاتها أن عباد الله الصالحين قد يتوهموا أنهم يذكروا الله ويعرفوه ويحبوه ويطلبوه فعندما ينتهوا يروا أن ذكر الله لهم كان الأسبق ومعرفته ومحبته وطلب الله لهم الأقدم، فسبحان من جعل هذه المعرفة محققة وليست مكتسبة بل أكثر من ذلك كونها تمام وكمال ونور نستضيء به في حياتنا وسبحان من جعل الغاية من الخلق المعرفة.