وروى البخاري أيضًا في التاريخ الكبير والبزار والطبراني عن مسلم ابن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل وعليه خاتم من حديد فقال: "ما طهر الله كفا فيها خاتم من حديد" حسنه السيوطي في الجامع الصغير وقال الهيثمي فيه شميسة بنت نبهان لم أعرفها وبقية رجاله ثقات.
قلت: وفيه عباد بن كثير الرملي ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما وقال ابن المديني كان ثقة لا بأس به وذكر المنذري عن ابن عيينة أنه كان ينهى عن ذكره إلا بخير، قال: وقال أبو مطيع: كان عندنا ثقة أخرج من قبره بعد ثلاث سنين فلم يفقد منه إلا شعيرات.
قلت: وأقل الأحوال في حديثه أن يكون من قبيل الحسن والله أعلم. وهذه الأحاديث تؤيد حديث بريدة رضي الله عنه وكما تدل بمنطوقها على المنع من لبس خاتم الحديد، فكذلك هي دالة بمفهوم الأولى على المنع من لبس ساعات الحديد لأنها أكبر من الخواتم. وعلة المنع كون الحديد حلية أهل النار وهم الكفار والمسلم منهي عن التشبه بأعداء الله تعالى.
وللمنع في حق الرجال علة أخرى وهي التشبه بالنساء في لبسهن الأساور بل وفي تحليهن بالساعات في هذه الأزمان. ومن المعلوم أن الحلية من خصائص النساء كما قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}.
وقد أبيح للرجال من الحلية النزر اليسير من الفضة كالخاتم وقبيعة
السيف وحلية المنطقة ونحو ذلك مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه الأمام أحمد ومسلم والبخاري تعليقا مجزوما به من حديث عائشة رضي الله عنها.
ومن الممنوع منه تحلي الرجل في ذراعه بسوار أو ساعة أو غير ذلك من سائر أنواع الحلية لأن التحلي في هذا الموضع من خصائص النساء.
فإن ادعى بعض المتشبهين بالنساء أنهم لا يقصدون الزينة بلبس الساعات في أيديهم وإنما يقصدون بها معرفة الوقت.
قيل: هذه الدعوى لا تزيل عنهم وصف التشبه بالنساء إذ لا فرق بين وضع الساعة في ذراع الرجل ووضعها في ذراع المرأة ولا فرق أيضًا بين من يقصد بلبسها الزينة ومن يقصد بذلك معرفة الوقت لأن كلا منهما متشبه بالنساء فهما سواء في علة المنع. ومن كان مقصوده معرفة الوقت فله مندوحة عن التشبه بالنساء فيضع الساعة في جيبه ونحوه من المواضع المعدة لوضع الأشياء فيها والله الموفق.
وقد جعل كثير من الناس دعوى معرفة الوقت حيلة لهم على استحلال التزين بالساعات والتشبه بالنساء والحيل لا تبيح المحرمات.
وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
وقد زعم بعض الناس أن لبس الساعات المتخذة من الحديد ونحوه لا بأس به للذكور وعللوا ذلك بأن الحديد ليس بحلية وشبهتهم هذه
مردودة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي لبس خاتما من حديد: "مالي أرى عليك حلية أهل النار" وقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الآخر لما اتخذ خاتما من حديد: "هذا شر هذا حلية أهل النار".
ففي هذين الحديثين النص على دخول ما لبس من الحديد في مسمَّى الحلية. فهو حلية أهل النار كما أن الذهب والفضة واللؤلؤ حلية أهل الجنة قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}. وقال تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}. الأساور جمع أسورة واحدها سوار وهو ما يجعل في الأيدي من الحلي حكاه ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغير واحد.
وقال مرتضى الحسيني في تاج العروس هو ما تستعمله المرأة في يديها.
قلت: وعلى هذا فالساعة داخلة في مسمَّى السوار إذا لبست في اليد. السوار ممنوع في حق الذكور من أي نوع كان من أنواع الحلية لما في لبسهم له من التشبه بالنساء والله أعلم.
فإن قيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للخاطب الذي لم يجد صداقًا: التمس ولو خاتما من حديد رواه مالك والشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه فدل على جواز لبس خاتم الحديد فكذلك الساعة منه قياسًا على الخاتم.
¥