• مع أن القارئ المنصف يمكنه أن يلاحظ أن أكثر المعالجات الفقهية التراثية لمنكر الاختلاط إنما هي في "الاختلاط المحض" الذي يخشى أن يكون ذريعة، فكيف بـ"الاختلاط المعاصر" الذي يصاحبه من المنكرات مايجعله "اختلاطاً مغلظاً" مثل تعطر الفتيات أثناء مخالطتهن للطلاب، وتجملهن كل صباح، واستعراض كل من الجنسين أمام الآخر، ولبسهن الملابس الضيقة بالألوان الخلابة، والتساهل التدريجي بكشف الوجوه ثم الشعور ثم النحور ثم بقية المفاتن، وتضاحكهن مع زملائهن، والتوسع في الفضفضة والدردشة في فضول الأمور كالهوايات والميول، وترعرع الانجذاب الخفي عبر كثرة المجالسة والملاطفة والاستملاح، وتصميم الحفلات المشتركة على خلفية المعازف الهادئة، ونشوء دواعي الزيارات الفردية، وكل دَرَكة تخفف من التي قبلها، الخ الخ، ويعرف ذلك كله من رأى الاختلاط في الجامعات الغربية، ورأى كيف يبدأ الفصل الدراسي كأنه عرض أزياء، وينتهي بصداقات ترتمي خلف أسوار الجامعة.
• فإذا استحضر المؤمن بالله واليوم الآخر مثل هذا الواقع المشهود، ثم تذكر أنه سيقف يوماً بين يدي الجبار يسأله عما خطت يداه، فكيف سيكون جوابه -في ذلك اليوم العصيب- عن تبريره لهذه الفواحش وذرائعها البشعة، وكيف سيكون جوابه -وهو يشاهد أهوال القيامة- عن توريط بنات المسلمين وفتيانهم بهذه المستنقعات؟
الترخص بالسكوت عن هذه الجرائم الأخلاقية في غاية الخطورة على دين المرء، فكيف بمن تجرأ وبررها وكذب على الله، كل ذلك ليلفت انتباه صناع ترشيحات المناصب، والله تعالى يقول (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر:60].
والله إن الأمر فظيع، ولكن ماتت قلوبنا -ولاحول ولاقوة إلا بالله- من كثرة مارأينا من هزائم الأخلاق على يدي الإعلام الأجرد.
• ومع ذلك كله لنسلم جدلاً بأن لفظ "الاختلاط" لفظ مخترع معاصر، فهل ينتهي وجوب إنكاره؟! فطبقا لهذا المنطق هل يمكن أن نقول لفظ "الفئة الضالة" لم يرد لافي قرآن ولاسنة ولافقه، وبالتالي فلاداعي للتحذير منهم؟! وهل يمكن القول أيضاً طبقاً لهذا المنطق: لفظ "الوطنية" لايعرف لافي قرآن ولاسنة ولافقه، وبالتالي لاداعي للحماس للمطالبة به؟! هل هذا منطق معقول بالنسبة لكم أم أن العبرة هاهنا بالمضامين؟!
• وهذا الباحث الذي يقول "إن لفظ الاختلاط لفظ لاهوتي-كنسي تسرب إلى المسلمين" أخشى أن يأتينا يوماً ويقول إن لفظ "الصلاة" هو أيضاً لفظ لاهوتي-كنسي باعتبار أنه ورد في "الكتاب المقدس" ثم تسرب إلى المسلمين! وأن مفهوم "تحريم الخنزير" مفهوم لاهوتي-توراتي باعتباره ورد في كتب اليهود، ثم تسرب إلى المسلمين! وأن لفظ "الزهد" لفظ هندي-روحاني تسرب إلى المسلمين من الحضارة الهندية! وأن لفظ "القتال" لفظ جاهلي-عربي تسرب من بقايا موروث ماقبل الإسلام! وهكذا دواليك، يتم جحد أحكام الله ورسوله باعتبار أنها ذكرت هنا أو هناك قبل الإسلام، أو بعده!
• هذا المشهد الأليم في الحقيقة يجعل حادثة الاختلاط الكاوستي تتحول من قضية "فرض سياسي للاختلاط" إلى "تبديل للحكم الشرعي" ذاته لتوفير غطاء فقهي للإرادة السياسية، وهذا يعني أن الخطورة تفاقمت أضعافاً مضاعفة، فشتان بين من يفتح بنكاً وهو معترف بتقصيره، وبين من يفتي بجواز الربا! وشتان بين من يقع في علاقة غير مشروعة وهو معترف بخطئه، وبين من يفتي بإباحة الزنا!
• وهكذا، فشتان بين من يكرِه المجتمع المسلم على إنشاء جامعة مختلطة، وبين من يحرف النصوص الشرعية والتراث الإسلامي، ويدعي أن لفظ "الاختلاط" لايعرف أصلاً في كتب أهل العلم!
فهذا التدهور من (الفرض السياسي للاختلاط) إلى (التبديل الشرعي لحكم الاختلاط) ينقلنا من منكر مجرد إلى منكر مغلظ.
• وأما بالنسبة لذلك الفريق المنسوب إلى (البحث الفكري) فالحقيقة أن أي دارس موضوعي يقوم بتحليل أطروحات "كتّاب الأعمدة الليبرالية" فإنه سيتوصل حتماً إلى أن جوهر المشكلة لديهم هي الجهل الفظيع لاغير، فهؤلاء الكتّاب يعانون من جهل فادح في تصور التراث الإسلامي، وفي تصور تركيبة المجتمع الغربي، فهم يجهلون طرفي الرحلة كليهما، حيث يجهلون محطة المغادرة ومحطة الوصول، فلايعرفون التراث (الذي يريدون أن نذهب عنه) ولايعرفون الغرب (الذي يريدون أن نذهب إليه)، فأي أزمة أكثر من أزمة مسافر لايعرف من أين جاء ولا إلى أين سيذهب؟!
• ومن الواضح لكل قارئ لخطاب الأعمدة الليبرالية أن أكثرهم يكتب عن الحضارة الغربية من خلال مايمكن تسميته "ثقافة السائح"، وأفضلهم حالاً هم ضحايا الكتب الفكرية العربية الاندهاشية التي يكتبها متطلعون للانحلال الديني الغربي فيزوّرون الواقع لأغراض آيديولوجية تتصل بتمرير ميولهم الشهوانية على أساس أنها جزء من مكونات المجتمع المتحضر، فيبتلعها هؤلاء المساكين ثم يعيدون صياغتها بشكل مبسط وترويجها للمستهلك النهائي وهو قارئ الصحافة.
• خلاصة القول أن الاختلاط منكر شرعي نصت عليه كافة المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة، ولايزال مسألة جدلية في الفكر التربوي الغربي لها أنصارها ومناوئيها، وكل طرح بخلاف ذلك لايساعده البرهان، والرهان على العلم ..
أبو عمر
ذي القعدة 1430هـ
¥