تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي 6نوفمبر 1954م -بعد خمسة أيام من اندلاع الثورة- ألقى رجال الشرطة الفرنسية القبض عليه بتهمة تنسيق الثورة في الداخل والنضال في القاهرة، ودام تعذيبه خمسة أيام كاملات، ذاق خلالها ألوان القمع الجسدي والنفسي من طرف جلادي الاستعمار في محاولة منهم لمعرفة الأسرار الكثيرة التي كانت تنطوي عليها جوانحه, فما نبس ببنت شفة, وما استطاعوا أخذ شيء, وكان يردد على مسامعهم كلمة واحدة هي " لا سلاح عندي ولا أسرار إني مسلم وطني فهل هذه جريمة؟ ": فلما يئسوا منه نقلوه إلى العاصمة كي يتم استنطاقه من طرف السلطات الاستعمارية العليا, وفعلا نُقل وبدؤوا يغرونه ويهددونه فلم يفلحوا في الحصول على ما كانت تتمناه أهاجيسهم, فعاودوا معه أساليب التعذيب بأبشع صورها إلى أن أذن الله لروحه، ففاضت إلى بارئها تحت أيدي العذاب، ثم فعل بجسد ما فعل، وسنترك الوالد في فصل المقتطفات يصف ما فُعل بولده الباسل رحمة الله عليهما.

هذه المحنة التي يقول عنها الشيخ الطيب المهاجي نفسه (105):" .. وباستشهاده نالني من الكوارث التي حلت بالجزائر الحظ الأوفر، والنصيب الأكثر إن لم أقل أُصبت بما لم يُصب بمثله غيري .. " ولكن عزيمة الشيخ لم تفتر ولم تتقاعس عن مهمتها التي عقد العزم على إبرامها ولو كان الثمن أكثر من القاسم، لأن ابن الشيخ ما هو إلا قطرة من بحر تدفقت أمواجه على أرض الوطن الحبيب الذي لا تزال تربته إلى اليوم تسقى بدماء الأبطال، وتروى بدموع الأرامل والأيتام، ومهما طالت العقود وتباعدت الأيام فإن أبناء الوطن الحبيب لا يزالون في كفاح دائم، لا يزيدهم ما يسومهم الأنذال من سوء المعاملة إلا شجاعة وإمضاءَ عزيمة على ما ثارت لأجله أسلافهم حتى ترده من يد الغاصب كاملا غير منقوص، والحمد لله على كل حال.

سيجد القارئ الكريم خلال عرض الكتاب وذكر ما يسر لله ذكره بعض الأمور التي ربما لا تتماشى مع ما عُلم من المعتقد الصحيح الظاهر الذي تناقلته أجيال العلم وأساطين الأثر جيلا بعد جيل، ولكن العذر في مثل هذه الحالات واجب إيراده، لأن الزمان والمكان مهما دندن حوله المدندنون لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار، ورجال الإصلاح في الجزائر قد بذلوا جهدهم الجهيد في ترميم ما هدّمت ركابَه الخرافاتُ والبدع التي تولّى كِبَرها المستدمر ورجال التصوف المنحرفين، أصحاب الشهوات والشبهات، وأما من زلت قدمه من علمائنا فالشأن في ذلك شأن المنصفين، فما استُطيع حمله محملا حسنا حُمل، وما لم يُستطع بَيَّنَ أهل الشأن الحقَّ فيه وحُفظت كرامة العالم حقّ الحفظ، فالعذر مرغوب والحق فوق رأس كل أحد مطلوب.

فنجد من ذلك حكايات الشيخ في باب التوسل والكرامات وبعض الأمور التي تجري مجرى لا يخفى على أولي الفنّ، ومهما يكن فأهل السنة كما ذكر الشيخ نفسه يثبتون الكرامات لأولياء الله المتقين الذين جعلوا الإيمان والتقوى شعارا يجولون به في حياتهم، مع صفاء عدالتهم وطهارة مروءتهم، وأما أولياء الشيطان فحالهم معروفة وقصصهم الخرافية مألوفة ولكن الشأن في هذا كله أن يُميَّز بين الحق والباطل الذي انخدع به كثير من العوام، ولا يُقرُّ أهل السنة السلفيون بتوسلات القُصّر الهُزّل الذين ربطوا حبال أمانيهم بأهل الأضرحة والقبور، طامعين النفع والضر من غير الله الحي القيوم، متأوِّلين أوجاهلين أو متغافلين عن النصوص البينة الواضحة في حكم التوسل وأنواعه، ولست بصدد تمحيص هذه المسائل وبيان الحق فيها فهذا مجالٌ آخر يُورد في محله والله الموفق للصواب.

وقصدي من هذه السطور هي ذكر بعض المقتطفات من الكتاب الممتع الموسوم بـ (أنفس الذخائر وأطيب المآثر في أهم ما اتفق لي في الماضي والحاضر) (5) الذي صور فيه صاحبه حياته العلميّة والعمليّة، أشبه ما يكون بالمذكرات، أو قل أشبه ما يكون برسائل علماء المغرب في تَعداد رحلاتهم وشيوخهم وما منَّ الله عليهم من العلوم والمعارف ولقاء الأفاضل وتذاكر العلم والأدب معهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير