[وقفة على أطلال قويزة و مدينتي الحبيبة جدة]
ـ[خضر بن سند]ــــــــ[01 - 12 - 09, 11:36 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
للتاريخ والذكرى:
في يوم الأربعاء الموافق للثامن من شهر ذي الحجة لعام ألف وأربع مائة وثلاثين من الهجرة النبوية الموافق (25/ 11/2009).
في مدينتي الحبيبة جدة تلك المدينة الساحرة الفاتنة الجميلة , التي شهدت لقاء وسمر الناس على شاطئها الجميل , شهدت في بيوتها وحاراتاها الغنية أو المتواضعة لقاءات المفكرين وتناشد الشعراء و أسمار الندماء, تقف جبالها الشرقية تحمل ذكريات ليالي مفعمة بالحديث الشيق والكلام النافع.
كان الوقت صباحاً جميلاً كجمالها , وبهياً كشواطئها , بدا الطقس غائماً وكأنه يرحب بالحجاج ويمنع عنهم حرارة الشمس, سينطلقون لمنى لبدء مناسك الحج فهذا اليوم يوم التروية , الحافلات الكبيرة التي تنقل الحجاج متراصة في أغلب الشوارع.
لقد بدأت تظهر الإحرامات البيضاء وهي تزين الأماكن , وبدأت أصوات الملبين تنتشر بخشوع وسكينة في مواقف الحافلات وفي مواقف سيارات الأجرة بطريق مكة , سيبدأ الصعود للحافلات وسيفترق الجمع , وبدأ عناق الناس وابتساماتهم وضحكاتهم وحنينهم وهم يودعون الحجاج: (بالله لا تنسونا من دعواتكم) , يحمل الأب طفلته ويقبلها قبلة الوداع , وتضم الأم صغارها وتوصي كبيرهم بالعناية بهم, تتقدم طفلة صغيرة ذات خمس سنوات لوالدتها تطلب منها أن تحني رأسها لها , ثم تقول بصوت طفولي عذب: (لا تنسي هدية لي يا ماما من الحج) , ولم يدري عشرات الحجاج أنها اللحظات الأخيرة لعدد من مودعيهم.
******************
في هذا اليوم الأربعاء هطلت أمطارٌ غزيرة من الساعة السابعة حتى صلاة الظهر , ست ساعات فقط كانت كافية لتكون الكارثة, وحسب إحصاء هيئة الأرصاد بلغت كمية الماء المتساقط (72.5) ملم فقط.
كانت لحظات تاريخية لن ينساها سكان جدة , وبالذات شرقها وجنوبها ووسطها الذي يسكنه أغلب سكان المدينة التي يقارب عددهم الأربعة ملايين.
سحب السيل آلافاً مؤلفة من السيارات وقذف بها فوق بعض على بعد بضعة كيلو مترات , دهم السيل المنازل والطرقات كأنه وحش كاسر يبحث عن الضحايا من السيارات أو البشر, وتحطمت عشرات المنازل , وفوق كل ذلك مات المئات والعشرات , حتى أن ثلاجات الموتى في المستشفيات لم تعد تقبل الجثث , في لحظات انقطعت الطرق , وانقطعت خطوط الاتصال وانقطعت الكهرباء.
وتم إغلاق عدد من المستشفيات الرئيسة , فجزء كبير من مستشفى الحرس الوطني بجنوب جدة تم إخلاؤه, وتم إخلاء مستشفى كبير من أربعة أدوار يقال له (مستشفى الدكتور عبد الرحمن بخش) بحي قويزة بالكامل , وتم إخلاء أجزاء كبيرة من مستشفى الملك عبد العزيز بحي غليل , وإخلاء الدور الأرضي بالكامل من المستشفى الجامعي الكبير لجامعة الملك عبد العزيز.
كان هنا في شرق جدة حي جميل , وهو حي الصواعد, أصبح خبراً بعد أن كان أثراً فقد سقطت الأبنية , وتصدعت العمائر الكبيرة , واختفت معالم الطرق الفسيحة حتى لا يدري الإنسان كيف يسير.
وبجواره حي (قويزة) وهو حي كبير جداً , يحمل جميل الذكريات , ففيه المدارس المشهورة , والمساجد المعمورة , و الفلل الجميلة أو البيوت الشعبية , والمخططات المرتبة الغالية الثمن , وعشرات الآلاف من الناس تسكنه , لقد أصبح الحي بقايا حرب نووية هائلة , فالشاحنات الكبيرة ملقاة على قارعة الأزقة والطرقات , وعشرات السيارات فوق بعض كأنها في عرض متحفي , ولا يدري الناس كيف احتملها السيل بهذه القوة , رائحة الجثث تفوح من كل مكان , لا يدري الناس أهي للبشر الذين ينتشلونهم بالعشرات في كل لحظة , أم للحيوانات النافقة التي جرفها السيل , لكن الحي أصبح منتناً من كثرتها , لقد سدت مخارج الطرق , وحوصر الناس , وعلا الصراخ والعويل , وانقطعت الكهرباء وتلتها الاتصالات, وجرف السيل كل شيء في الشارع السيارات والحافلات والشاحنات و المحلات والمحطات وصرافات النقود الآلية, وأصبحت فرق الإنقاذ التي لم تصل إلا ليلاً مبهورة عاجزة , هل تبدأ من أول الحي أم من وسطه , هل تسعف هذا الشارع أم ذلك؟ , هل تنقذ هذه الأسرة أم تلك؟.
¥