قاموا بتخطيطها بإشراف البلدية, وأجروا فيها بعض الطرق, وزينوها بأعمدة الكهرباء, وأجروا في أوصالها الماء , حتى غدت كعروس حسناء , ثم باعوها على الناس بثمن مرتفع , وقامت البلدية برشاوى الوجهاء وضغط الكبراء بتخطيط الأودية , وردمت المجاري القديمة , وبنى آلاف الناس في بطون الأودية وعلى الأنقاض المردومة بعناية ورعاية المساكن والمدارس والمساجد , وسكن هنا مئات الآلاف من البشر , وعاش الأثرياء في قصورهم خارج المملكة العظيمة , وسكن هنا مئات الألوف وجاءتهم الكارثة ...
هنا سيبكي الأطفال , وتسيل الدموع , وسيقف اليتيم حائراً ماذا يقول أمام التاريخ , كيف فقد أسرته الكاملة وبقي هو لوحده يقاسي الحرمان بقية دهره.
ستقف الأم الثكلى أمام ربها تسأله أن ينتصر لها من الذي كان السبب في إهلاك أطفالها أمام بصرها بين السيارات والأرصفة والدكاكين المكتظة بأنواع السلع.
ستبكي البنت الصغيرة أبد دهرها, وهي ترى والدها الحنون يضعها على رصيف مرتفع ثم ينطلق لينقذ بقية إخوتها فيجرفهم السيل جميعاً , وهي تصرخ (بابا ... بابا لا تتركني) تصرخ بموشحها الحزين الباكي ليدوي صوتها في قلب المدينة الإسلامية العريقة بوابة الحرمين والنابضة ببهرج الحياة.
*********************
سيسمع الناس في مدينتي الجميلة كلمات بعض الوعاظ الجهلة بأن ما حصل هو بسبب ذنوب السكان والبشر القاطنين في تلك الأحياء , (وهو حق لاشك فيه بأن ماحصل وسيحصل بسبب ذنوب الناس) ولكنهم سيقتصرون على ذلك فقط ولا شيء غيره , محاولين السكوت بخوف وترقب عن أخطاء أو كار الفساد وعصابات الإجرام ومحترفي سرقة مال الأمة.
سيسجن الفقير في بلد البترول الأول في العالم لعدم تسديده أقساط سيارته أو فرن وغاز منزله , لكن سيحتفي الإعلام بالخونة وسيكونون هم المتحدثون عن الفضيلة والمشاريع الجميلة البراقة , سيتحدثون في عصر سكت فيه العلماء والمفكرون عن الخوض في الشأن العام تحت ضغط الواقع ورهبة الموقف.
سيسألنا الله تعالى , كل في محيط قريته ومدينته عن الشرور والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
و إن من المنكرات العظيمة في عالمنا الإسلامي سرقة اللقمة من فم الفقير , وأدهى من ذلك المنكر تبرير العالم الشرعي والكاتب الأدبي سرقة تلك اللقمة للغني القوي , ثم إيجاد الأدلة ولوي أعناق النصوص لكي تساعد الظالم على جلد ظهور الفقراء والضعفاء.
إن من الذنوب الكبار ما نغطيه بذنوب أصغر منها, فنوهم الناس أننا واقعون في براثن الذنوب التي هي دونها , وننسى أن نبياً كريما وهو شعيبٌ عليه السلام كان ينادي في قومه بكل وضوح وصدق وإخلاص: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) إنّ هذه الكلمات الخالدة جزء رئيسي من دعوة الأنبياء التي متى أهملنا جزءً منها كنا على خطر عظيم , ليس من الإيمان أن نكون مثل اليهود الذين قال الله عنهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض).
لقد رفع الأنبياء الظلم عن الفقراء , ولم يخلخلوا الأمن أو يطمعوا في السلطة , أو يريقوا الدماء وينهبوا البلدان , لقد عاشوا رحمة للعالمين , لم يدمروا الطرق ويحرقوا الأرض بحجة الإصلاح , ولكنهم مسحوا رأس اليتيم , وزجروا الظالم , وأقاموا الحقوق كما أراد الله وليس كما يريد البشر , فاخبرونا أنّ امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت , وأخبرونا أنّ الله غفر لزانية سقت كلباً رأته يلهث من شدة العطش.
فكيف بملايين العمال في العالم الإسلامي الذين لا يتقاضون رواتبهم إلا بالقطارة , وكيف بملايين الجوعى الذين لا يجدون من يتكلم عن همومهم ومشاكلهم , وكيف بالأطفال الذين لا يجدون من يأخذ بأيديهم للتعليم الجيد الذي ينفعه وينفع مجتمعه , وكيف بالنساء الفقيرات اللواتي يتسولن أبواب الجمعيات الخيرية ونحن نقذف بأموالنا الرسمية لدعايات القنوات وسهرات الفنادق واللجان الوهمية.
إن دور العلماء أكبر من موعظة ودرس عابر, ودور الكتاب والمثقفين أكبر من مجلس أدبي ساهر أو إصدار كتاب أو دراسة نصوص حديثة شعرية وأدبية , وأما يكون بعض العلماء والشيوخ مستشارين لكبار الشركات الإقطاعية التي تمص جيبو الفقراء , ويتحول بعض الشيوخ أو العقلاء إلى محامين لكبار المجرمين , ويصبح عدد من الخطباء وكتاب الصحافة منافقين مأجورين , فهذا وضع لا يرضي ربنا سبحانه وتعالى , وهذا من الذنوب العظيمة التي يجب إنكارها.
اللهم ارحم الأموات و اغفر لهم وأبدلهم أهلاً وداراً خيراً من دارهم وأهلهم.
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا لأنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
اللهم قيض لنا من أمرنا رشداً , وكن معيناً للأيتام والأرامل والمساكين والفقراء يا رب العالمين.
اللهم أحفظ مدينتي الحبيبة بوابة الحرمين وثغر الإسلام من شر الأشرار وكيد الفجار.
خضر بن صالح بن سند
مدينة جدة حرسها الله
ذو الحجة 1430
¥