فهل في هذا عبرةٌ لنا وعظةٌ؟! هل يجعلنا نفيقُ من غفلتنا ونقطع طول الأمل لنزداد من العمل؟
الاعتبار الثالث: الإيمانُ بالقضاء والقدر والرضا به
فإنَّ من سمتِ المؤمن أن يؤمنَ أن قضاء الله حتمٌ، وقدره نافذٌ، فقد قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد]، وقال صلى الله عليه وسلم: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ. [الترمذي]
ومن سمت المؤمن ألا يتسخط قضاء الله، وأن يؤمنَ أن فيه خيراً علمه أو جهله. والله يقول: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الله إذا قضى قضاء أحبَّ أن يُرضى به. [الرضا لابن أبي الدنيا]
وكانت أم الدرداء تقول: إنّ الراضين بقضاء الله الذين ما قضى الله لهم رضوا به لهم في الجنة منارٌ يغبطهم به الشهداء يوم القيامة. [الرضا لابن أبي الدنيا]
وعلة عدم التسخطِ أنَّ المؤمن يدركُ أن كل ما يقضيه الله فيه وجه من وجوه الخير، فعن أنس رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْضِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ. [أحمد]
وفي الحديث: (والشر ليس إليك) [النسائي]، وقد نقل النووي عن بعض أهل العلم في تفسير هذا: أي " الشَّرّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك فَإِنَّك خَلَقْته بِحِكْمَةٍ بَالِغَة، وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ".
وبعد هذه الجولة الإيمانية الضرورية وإن شرقت بها حلوق ..
يجبُ علينا أن نضعَ النقاط على الحروفِ كما يُقالُ ..
ويجب أن يكون ذلك بوضوح شديدٍ بعيداً عن المواربةِ والمجاملة؛ فثمت مئةٌ روحٍ بريئةٍ تشكو إلى الله!
وأول جوانب الوضوح هنا أن نتذكر جيداً أن ما حصل لم يكن (كارثة) طبيعية بقدر ماكان كارثة (بشرية)!
كانت الأمطارُ عاديةً .. ولكنَّ استعداد جدة لتلقيها لم يكن عادياً أبداً!!
أمطارٌ تنزلُ أضعافُ أضعافها على مدنٍ هي دون جدة مساحةً وغنى فتستوعبها، وتجريها في مجاريها، وينعمُ أهلها برحمةِ السماء.
من الذي جعل النعمة نقمة؟ وكيف تحولت الرحمةُ إلى بلاء؟
من المسؤول عن جعل (جدة) تغرقُ في شبر ماء؟!
بل من المسؤول عن جعل جدة عجوزاً كسيحةً لاتقدر على شيءٍ من أمرها؟
كيف أمضت جدة عشرين عاماً من عمرها لم يُنشأ فيه جسر ولا نفق على حين سكانها يتزايدون بمعدلات عالية؟ وحين جاءت هذه المشاريع جاءت مجردة من أبسط قوانين السلامة!!
كيف أصبحت جدة تعاني من مئة نقطة اختناق مروري في شوارعها؟! تتراص فيها السيارات لمسافة نصف كيلو متر؟
وكيف ظلت جدة عشرين عاماً لم تزد فيها ماصورة صرف صحي واحدة! وهي تتمدد شرقاً وشمالاً وجنوباً حتى باتت المنطقة المغطاة بشبكة الصرف لا تتجاوز 8% من حجم المدينة؟ رغم اعتماد ثمانية مليارات ريال لتوسيع الشبكة منذ خمس سنواتٍ؟
كيف صارت جدة محضناً لأكبر بحيرة منتنة على مستوى العالم؟ تلك البحيرة التي سميت زوراً (بحيرة المسك)! والتي بلغ طولها الآن عشرة كيلومترات، وتحتوي على 17 مليون متر مكعب من الماء الآسن؟ ولمن لا يعرف البحيرة حسبه أن يعرف أن حجمها اليوم أكبر من حجم خليج أبحر! وأن امتدادها يساوي المسافة من شارع فلسطين إلى شارع حراء!!
كيف رضيت جُدة بأن يصبّ في شاطئها النزه ثلاثة مصارف للصرف الصحيّ؟ وكيف احتلت المرتبة الأولى بين شواطئ العالم الملوثة؟ وكيف صارت هذه الشواطئ مقبرةً للمتنزهين؟
كيف أدمنت جُدة على (طَفْحِ) المجاري، بحيث لايخلو يوم من أيامها من طفح هنا أو هناك .. وربما غرقت أحياء بكاملها؟
كيف ألفتْ جدةُ شوارعها التي لو سلمتْ من البثور لأنكرت نفسها؟
كيف أفاقت جدة على أحياء بكاملها أنشئت في مجاري السيول؟
كيف وكيف وكيف؟!
آه ..
كثيرةٌ هي تجاعيدُ الزمنِ على وجهك ياجدة!
¥