تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وثانيها: الإيغال في العمل الفكري، وهو خير وبركة، ولكن بعد أن يرقَّ القلبُ بممارسة أشواق الروح مما صحَّ من ممارسات الربانيين ككتب ابن قيم الجوزية رحمه الله في الرقائق، وكشيئ من مُبكيات القلوب آخُذُه بحذرِ من تجربات القشيري والمحاسبي وأبي طالب المكي وغيرهم بعد تحقيق الدلالة والثبوت؛ لأن المرجع إلى نصوص الشرع وسِيَر قدوة الأمة من السلف كالصحابة رضوان الله عليهم .. ولكن أنَّى لقلب يرقُّ ويَهَشُّ (4) لهذه الرياضة وقد أُفعم بالطرب والحب؛ فكان علمي فكرياً عقلياً لا يلامس القلب إلا في الأفاويق التي ذكرتها.

وثالثها: التعلم لذات العلم مع شوائب من الرياء وطلب السمعة؛ فكانت قراءتي الشرعية تتسرَّب من الذاكرة بسرعة؛ لأن وعاء العلم القلبُ لا العقلُ العابر المتغطرس، وكانت صناعتي الجدل، وأَقْبِحْ بها من حرفة تُقَسِّي القلب!! ..

ولكن ربي جلّ جلاله لم يحرمني من الخير؛ لأن للفطرة والنشأة والميل للعلم الشرعي (وإن كان بتلك الصفة) أثراً مباركاً؛ فكان لطف الله بي كزخَّات المطر في الأفاويق التي ذكرتها، وأذكر نماذج:

مرة أكون في بلد أجنبي، ونافذتا غرفتي الكبيرتان تُطلان على البحر، والقوم - وليس بعد الكفر ذنب - في رقص وزمر وغناء خواجي أجمل منه صوت الحمير، فتنقبض نفسي، وأقفل النوافذ، وأتوضأ وأقرأ ما تيسر من القرآن، وربما قدَّمتُ بركعتين لقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه كلما توضأ تنفَّل (5)، ثم يمر بي آيات مؤثرة تقترن بوضعيَّة حياتي، فأطبق المصحف، وأرفع رأسي إلى السماء (ودعوة المسافر مُجابة)، وأذهل عن نفسي فلا أذكر إلا قليلاً من الدعاء الذي يفتحه الله عليَّ, ومنه: (أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت بنوره السموات والأرض أن تقذفني في النار طرفة عين؛ فإني عبدك الضعيف لا أقوى على ذلك)، وأستعيذ بالله من عذاب القبر وضغطته ووحشته، وأشفق من الموقف العظيم؛ فلا تمنعني إساءتي من دعاء ربي بإلحاح أن يظلني تحت ظل عرشه .. ومما كنت أقوله تلقائياً وليس كلُّه مأثورَ اللفظ: (اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله .. اللهم أحيني حياة سعيدة مديدة تكسب عملاً صالحاً عامرة بالعلم النافع والعمل الصالح إلى يوم ألقاك غير مبدِّل ولا مُغِّير، وأنت راضٍ عني، وأنا مشتاق إلى لقائك، واثق بعفوك، غير مستوحش من ذنوبي) .. وأسأله تعالى العصمة من الذنوب كبيرها وصغيرها ولمَمِها، وأسأله حسن الثناء عليه، وصدق التوكل عليه؛ فوجدت أثر ذلك عاجلاً وآجلاً؛ فالعاجل أنه ينزاح عني كابوس، وينشرح صدري؛ فأتفاءل بأن ذلك من بشرى المؤمن في حياته على الرغم من ظلمي نفسي، لقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة يونس 62 - 64)، ومن الآجل أن الله أنعم عليَّ في وقتٍ قصير بحفظ مأثوري من الأدعية الشرعية الصحيحة الموظَّفة والمطلقة، واستزدت بحفظ ما لم أكن أحفظه؛ فهذه بشرى من الله أن وفَّقني لحسن الثناء عليه، وبدأت أنخل كتب الأدعية رواية ودراية، وأُنقِّيها من أو شاب علماء زهاد أرادوا الخير؛ فتزيدوا بغير المأثور، وحملوا بعض المعاني على آثار من الزهد تأتَّت إليهم من متصوفين ليسوا علماء في الشريعة يُلَقَّبون بالعارفين بالله، وبدأت بكتاب العالم الورع أبي بكر الطرطوشي رحمه الله؛ فهو خليق بالتنقية، وأما كتب أبي حامد الغَزَّالي في الزهد والذكر ففيها خيٌر يُعين على الرياضة، ولكنَّ تنقيتها أشق .. ومن ذلك الآجل أن الله بغضَّ إليَّ الطرب في وقت قصير؛ فوجدتُ قبحه في الأذن والنفس، وآليتُ على نفسي بِأَخرة أن لا أُجامل أحداً فيه؛ فإن كان سماعه لا استماعه ضربة لازب سبَّحتُ ربي في قلبي، ولن أكرر ما نشرته عن الطرب في هذه الجريدة، ولكن براءةً لذمتي، وتكفيراً لما سوَّدته من أوراق خاسئة: أُشهد الله، وملائكته، وحملة عرشه الكرام، وجميع خلقه - من غير جدال في تصحيح حديث وتضعيف آخر، بل الأمر تجربة نفسية -: أن الغناء مهما كابر المكابرون يُقسِّي القلب، ويُعين على هجر القرآن الكريم وحديث رسول الله وسير الصالحين؛ فإن عانى ذلك بالرياضة حصل له فهم وإدراك عقلي،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير