تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

على معرفة الرب سبحانه أكبرُ أثراً من البراهين العلمية العقلية .. ومن أخبار الشرع المطهر التي يمتحن الله بها عباده تكذيباً أو تصديقاً خبره الكريم عن الشيطان الرجيم المغيَّب عن حواسنا الظاهرة، وهو عدونا منذ أبوينا عليهما السلام: يعدنا الفقر، ويأمرنا بالفحشاء, ويزيِّن لنا سوء أعمالنا، ويلبِّس علينا في عبادتنا .. هذا خبر؛ فليحمله الحاملون على ما شاؤوا، ولكن لي تجارب عجيبة ثبَّتتْ إيماني بأن الله الحق، وقوله الحق؛ حتى أيقنت أن العناء في العبادة الذي سأذكره بعد قليل إن شاء الله في جهاد الشيطان عند العبادة هو في ذاته نوع عظيم كريم من أنواع العبادة، فمرة كنت في بلاد الخواجات عند النافذتين اللتين أسلفتهما، وربما حكمت ظروفي ولاسيما الصحية أن أصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً منفرداً؛ فيكثر سهوي، ولا أدري كم صليت، ولا أعلم ما ذا قرأت، ويكثر سجودي للسهو، وأحياناً تحضرني نكتة سخيفة فأبتسم في صلاتي، وأحياناً تحضرني مقطوعة أدبية ماجنة لا أعي بها لبَّ الصلاة من التلاوة والدعاء، وأتذكر أشياء بعيدة المدى، وأشياء أريدها قبل الصلاة وأنساها فإذا شرعت في الصلاة ذكرتها؛ فلا أكتفي بسجود السهو بل أعيد صلاتي .. ولما طالت معاناتي لاب ببالي - وإني لأميِّز في قلبي بين لمَّة المَلك الكريم، ووسواس الشيطان الرجيم - أن لا أكتفي بالإقامة، بل الأذان أفضل الذكر في بلاد الفسق والكفر؛ فأذنت .. وأقسم لكم بالله العلي العظيم، ولعنة الله على الكاذبين (وقد أقسم لكم أبو عبدالرحمن وعمره أربعة وسبعون عاماً لا يدري متى يلقى ربَّه؛ فصدِّقوه, ولا تستكثروا بما يُخيَّل إليكم من حصافة عقولكم): أنه (11) أصابتني وحشة عظيمة، وما أعرف الوحشة في حياتي، بل كنت مِدْباس (12) ليل، وأحسستُ أن مخلوقاً يفرك قلبي بأصابعه، وأنا أدافع ذلك قبل الشروع في الصلاة بالتهليل والتقديس والتعوُّذ؛ فشرعت في الصلاة وأنا على وحشتي كأن الغرفة تدور بي، وكانت تلتبس علي قراءة سورة الفاتحة، ولا أكاد أحصي من صلاتي شيئاً، وكرهتُ أن أقطع صلاتي وأنا على نية إعادتها، فلما فرغتُ من صلاتي ثاب إليَّ رشدي، وصرت كأنني أحاور رجلاً عن يساري, وأقول: أنت عدو الله تأمرنا بالفحشاء، وتعدنا الفقر، وتُلَبِّس علينا ديننا, وتصدنا عن الأنس بالله .. إن شيطان المؤمن هزيل، والله قسماً برب كريم لأدحرنَّك ولأحرقنَّك؛ فنهضت بنشاط كأني شاب ابن عشرين عاماً؛ فرفعت عقيرتي بالأذان مرة أخرى بجهُوريَّةٍ وأناة وترجيع, فانزاح عن نفسي كابوس عظيم، وأديت صلاتي بخشوع وطمأنينة، وكانت هذه الغُريفة سكينة أنسي بالله، وأعمرها بتلاوة كلام الله أطراف الليل وأطراف النهار، فيحصل لي وعيٌ بمعاني كلام الله لم يحصل لي بالبحث والتنقيب في كتب التفسير مما كنت أُعانيه أيام شهوة التمظهر العلمي في برنامجي (تفسير التفاسير) - الذي هو مماحكةٌ علميةٌ وليس ذوقاً قلبياً - .. وأحياناً تخضلُّ لحيتي بالدموع رعشة وقشعريرة، وقد قلت لكم كثيراً: (إن لملائكة الرحمن السُّياح عليهم السلام أثراً في ذلك؛ فهم يحضرون مجالس الذكر، ويستغفرون للمسلم مسيئاً أو محسناً)، وكان يُفتح عليَّ بدعاء حفظه الله لي، فوجدت أثره وحلاوته في ثمالة عمري، وأسأل الله أن يصحبني صدق الإنابة إليه، والتوكل عليه, وأن يمنحني العصمة حتى ألقاه راضياً عني؛ فهذه تجربة نفسية حَدَث بها برهان علمي على صدق خبر ربي عن الخناس الوسواس .. ومنذ ذلك اليوم علمتُ يقيناً أن الشروع في العبادة ليس اعتباطاً، وأن جهاد الوسواس الخناس ليس سهلاً؛ فعدو الله يُشامُّك في كل أنواع العبادة كما يشامُّ الذئبُ الغنم؛ فتعهدت نفسي إن كنت مأموماً أن أسدَّ الفُرج، وإن كنت منفرداً أن أباعد ما بين رِجْليَّ بقدر ما يحصل به اتِّزاني في الوقوف، وفي كلتا الحالتين لا يتعدى بصري موضع سجودي حتى لا أحسَّ بشيئ حولي، وتكون يداي أعلى صدري، فهذا أجمع للفكر والخشوع .. فإن كنت منفرداً أطلت القيام والركوع والسجود والجلوس الأخير معادلاً بين أحوال الصلاة في المدة الزمنية بقدر ما تسمح به مدة الدعاء المشروع إلا القيام والسجود وما بعد التشهد الأخير فلا حدَّ له إلا بمقدار ما تنصب وتتعب، وإلى لقاء بحول الله.

الهوامش:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير