لقد أصبح الاعتراف بالإسلام قَدَر أوروبا المحتوم , وأصبح المسلمون يمثلون أعداداً ضخمة لا يمكن القضاء عليهم , وأصبح عليهم لزاماً أن يستشيروا عقلائهم وليس الأحزاب المتطرفة التي تجر المنطقة للهاوية , لقد عانت أوروبا من ظلم الكنائس المتسلطة , في حين عاش النصارى في كنف المسلمين مئات السنين.
عليهم أن يستفيدوا من التجربة الإسلامية العادلة , وألا يحاولوا أن يعيدوا لأنفسهم ذكريات محاكم التفتيش و فضائع المحاكمات , فإذا نمت بوادر الشعور بالعودة للكنيسة , فإن الخلافات الكنيسة الداخلية ستنفجر ولاشك مرة أخرى وستجني الشعوب الأوربية مرارة العنف الكنسي بين الكنائس المتناحرة , بأسلوب أفضع في طريق مملوء بالحفر العميقة والاختلافات التي لا يمكن أن تردم أو تطوى , ولتعلم أوروبا جيداً أنهم إن نجحوا في القضاء على المسلمين بواسطة الحق المسيحي , فحينئذ بمقتضى طبيعة الشر في النفس البشرية سيعود النصارى على بعضهم , وستعود الأيدي المتصافحة المتحدة اليوم تأكل وتنهش جسد الأخرى , وسيلهكون الحرث والنسل في حروب دينينة عنيفة.
لا يمكن أن تفعل أوربا حالياً مثل الصرب قبل خمس عشرة سنة , فوضعها المالي والصناعي لا يسمح بدخول حرب سافرة وقذرة حالياً , ولا يمكن لها أن تخرج وتطرد المسلمين من أراضيها لأنهم أبناء البلد الأصليين أو أصحاب جنسيات رسمية , وهذا سيقضي على النظام الديموقراطي برمته وسيهدد اقتصاد وأمن أوروبا بكاملها , ولذلك وجب عليها ألا تسير خلف الأحزاب المتطرفة , وأن تكون حازمة في قراراتها المصيرية وأن تساير القضية بعقل وتسامح حتى لا تغرق حضارتها في أوحال التطرف المقيت.
سيغدو الإسلام للبشرية الوردة المتفتحة ذات الرائحة الجميلة , وسيكون المسلمون هناك وفي شتى بقاع العالم مثل الشجرة الباسقة التي يرجمها الأشقياء بالحجارة فتسقط لهم الثمار الناضجة , وسيحمل المسلمون مصابيح الدجى في زمن التيه والضياع الروحي في عالم الماديات المعاصرة , الذي حول البشر لألات تعمل وتكدح لخدمة أرباب الإقتصاد والمال فقط , حتى فضّل كثير من الأوربيين الإنتحار على هذه الحياة البئيسة الكئيبة
ربما كان المسلمون في بلاد الإسلام تظهر منهم سلوكيات خاطئة , ولكنهم هناك في بلاد النصارى يتمسكون بدينهم رغم محاربة الناس لهم , وتتمسك المرأة بحجابها رغم انتقاد المجتمع لها , إنهم يصلون رغم قلة المساجد , ويجتمعون رغم ضيق الأوقات , ويتعلمون رغم قلة المرشدين والمعلمين , إننا نراهم فنشعر بضعفنا أمام همتهم ونشاطهم , فهم مسلمون يسبحون ضد التيار والجرتمع , هناك يمتحن المسلمون فيصمدون ويثبتون للعالم أجمع أن الإسلام قوي في نفسه وذاته , وأن الإعلام أو القوة العسكرية ليست إلا قوة ضعيفة أمام قوة الإيمان وصدق العزيمة والتوكل.
إننا على ثقة بإذن الهت أن إخواننا المسلمين هناك أكثر وعياً وإدراكاً لأبعاد القضية , فوجود المآذن و المنارات أو عدم وجودها لا يمثل حرجاً للمسلمين هناك , فكثير من مساجدهم بدونها أصلاً , وهكذا وجود الدعم المادي أو قلته مشكلة يستطيع المسلمون أن يتجاوزها.
ولانقول ذلك عبثاً أو مجازفة فحكمتهم في معالجة الأمور يضرب بها المثل , فهم من أكثر الناس قدرة على التعامل مع الأحداث , قد صقلتهم التجارب في عدم اللجوء للعنف وخاصة في بلاد يغلب على أهلها النصارى أو التطرف , وقد أضحت أعمالهم وطريقة سيرهم أموراً مقتبسة ومحاكاة عند كثير من التجمعات الإسلامية خارج أوروربا , لقد أصبحت المراكز الإسلامية أنموذجاً للمسجد المتكامل والمؤسسة الدينية الناضجة, وأصبحت حياة المسلمين هناك في وسط مجتمع منحل أو شارد عن الدين مجالاً للبحث والدراسة والتمحيص , ولذلك يعجب الإنسان من كثرة الداخلين الجدد في الإسلام من أبناء تلك الدول على أيديهم , مع انّ أغلبهم دعاة غير متفرغون , ويعملون في مهن تستهلك غالب ساعات النهار , لن تعجب وأنت ترى هناك انتشار الإسلام بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة , بدون أن يكون هناك جمعيات تمتلك عشرات الملايين كما يفعل النصارى للتنصير , ومع ذلك مع مرّ الأيام يتقدم المسلمون ويتراجع التنصير والنصرانية حتى في عقر دارها.
إنّ واجبنا أن نقف مع إخوانا المسلمين حيثما كانوا , وأن نمد لهم يد العون بالكلمة الصادقة والوقفة الجادة وبالمال وبمشاركتهم في هموهم وقضاياهم , أن نقف معهم بالتعليم والإرشاد وبذل ما نستطيع للمراكز الإسلامية , وأن نسارع إلى محاولات ابتعاث أبنائهم للدراسة في جامعات المسلمين النقية , وأن يكون لنا دور في تعريف بقية المسلمين بأحوال إخوانهم هناك , إن على إعلامنا وكتابنا ووجهائنا مسئولية جسيمة أمام الها تعالى , ولنتذكر أن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص , وأنّ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وهانحن من جوار المسجد الحرام نتألم ونحزن لإخوة لم نرهم ولانعرف عنهم إلا القليل ولانملك أن نقول لهم إلا: إن اله معكم ولن يخذلكم متى تمسكتم بدينه وسعيتم لإرضائه ورفعة دينة , وصدق اله القائل: (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
خضر بن صالح بن سند
جدة بوابة الحرمين الشريفين
20/ 12/1430
7/ 12/2009
¥