إنْ قُلْتُ: برضىً مِنْهُ، قُلْتَ: ما نَقِمْتُمْ؟ أُعطوا ما سألوا وأرادوا؟ وإنْ قُلْتُ: بِسَخَطٍ، قُلْتَ: فَلِمَ تعبُدونَ ما لا يمْنَعُ نفْسَهُ.
ثم قال الشيخ لبشير: نَشَدْتُكَ بالله! هَلْ كان عيسى يأكُلُ الطعام ويشرب ويصوم ويُصلي ويبول ويتغوط وينام ويستيقظ ويفرحُ ويحزن؟.
قال (بشير): نعم.
قال الشيخ: نشدتكَ بالله! لِمَنْ كان يصومُ ويصلي؟.
قال (بشير): لله عزّ وجلّ.
ثم قال بشير: والضارِّ النافعِ، ما ينبغي لمثلك أن يعيش في النصرانية! أُراكَ رجلاً قد تعلّمْتَ الكلام، وأنا رجلٌ صاحبُ سيفٍ، ولكن غداً آتيكَ بمن يُخْزيكَ الله على يَدَيْهِ!.
ثم أمره بالانصراف.
فلما كان من غدٍ، بَعَثَ بشيرٌ إلى الشيخ، فلمّا دخل عليه إذا عنده قِسٌّ عظيم اللحية.
قال له بشير (أي قال للقس): إنَّ هذا رجُلٌ من العرب له علمٌ وعقلٌ وأصلٌ في العرب، وقد أحبَّ الدخول في ديننا؛ فكلِّمْهُ حتى تُنَصِّرَهُ؛ فسجد القِسُ لبشير وقال (أي القس):
قديماً أتَيْتَ إلى الخير وهذا أفضَلُ ممّا أتيتَ إليّ.
ثم أقبل القِسِّ على الشيخ فقال: أيُّها الشيخ! ما أنت بالكبير الذي قد ذهب عقله وتفرّق عنه حلمه، ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حمله، غداً أغطسُكَ في المعموديَّةِ غَطْسَةً تَخْرُجُ منها كيومَ ولَدَتْكَ أُمُكَ!.
قال الشيخ: وما هذه المَعْمُوديَّةُ؟.
قال القس: ماءٌ مُقَدَّسٌ.
قال الشيخ: مَنْ قَدَّسَهُ؟.
قال القس: قَدَّسْتُهُ أنا والأساقِفَةُ قَبْلِي.
قال الشيخ: فهل كان لكم ذنوبٌ وخطايا؟.
قال القس: نعم؛ غير أنّها كثيرة.
قال الشيخ: فهل يُقَدِّسُ الماءَ من لا يُقَدِّسُ نَفْسَهُ؟.
قال: فسكت القِسِّ؛ ثم قال: إنِّي لم أُقَدِّسْهُ أنا!.
قال الشيخ: فكيف كانَتْ القصةُ إذنْ؟.
قال القس: إنما كانت سُنَّةً من عيسى بن مريم (عليه السلام).
قال الشيخ: فكيف كان الأمر؟.
قال القس: إن يحيى بن زكريا أَغْطَسَ عيسى بن مريم ـ عليهم السلام، بالأرْدُن غطسةً ومَسَحَ بِرَأْسِهِ ودَعَا له بالبرَكَةِ.
قال الشيخ: فاحتاج عيسى إلى يحيى يمسحُ رأسَهُ ويدعو له بالبركة؟! فاعبدوا يحيى، فيحيى خيرٌ لكم من عيسى إذن؟.
فسكت القِسُّ.
فاستلقى بشيرٌ على فراشه وأدخل كُمَّهُ في فيه وجعل يضحك.
قال (أي بشير) للقِسِّ: قُمْ أخزاكَ الله، دَعَوْتُكَ لِتُنَصِّرَهُ فإذا أنتَ أسْلَمْتَ!.
ثم إنَّ أمْرَ الشيخِ بَلغَ الملكَ؛ فبعث إليه.
فقال (أي الملك): ما هذا الذي بلغني عنك وعن تَنَقُّصِكَ ديننا ووقِعَتِكَ؟.
قال الشيخ: إنَّ لي ديناً كنتُ ساكتاً عنهُ، فلمّا سُئِلْتُ عنه لم أجدْ بُداً من الذَبِّ عنه.
قال الملك: فهل في يَدِكَ حُجَجٌ؟.
قال الشيخ: نعم! ادْعُ إليَّ من شِئْتَ يُحاجِجُنِي؛ فإن كان الحقُ في يدي؛ فلمَ تَلُمني عن الذب عن الحق؟ وإن كان الحق في يديك، رَجَعْتُ إلى الحق.
فدعا الملك بعظيم النصرانية؛ فلمّا دخل عليه سَجَدَ لهُ الملكُ ومن عِنْدَهُ أجمعون.
قال الشيخ: أيُّها الملك، من هذا؟.
قال الملك: هذا رأس النصرانية، هذا الذي تأخذُ النصرانية دينَها عنه.
قال الشيخ: فهل لَهُ من ولدٍ، أمْ هل له من امرأةٍ أو هل له من عَقِبٍ؟.
قال الملك: ما لكَ أخزاكَ الله! هو أزكى وأطهر من أن يُدنَّسَ بالنساء، هذا أزكى وأطهر من أن ينسب إليه ولد، وهذا أزكى وأطهر من أن يدنس بالحيض، هذا أزكى وأطهر من ذلك.
قال الشيخ: فأنتم تكرهون لآدميٍّ يكونُ منه ما يكونُ من بني آدم من الغائط والبول والنوم والسهر وبأحدكم من ذكر النساء، وتزعمون أن ربّ العالمين سَكَنَ في ظُلْمَةِ الأحْشاءِ وضيق الرَّحِمِ ودُنِّسَ بالحيض؟.
قال القِسُّ: هذا شيطانٌ من شياطين العرب رمى به البحرُ إليكم؛ فأخرجوه من حيث جاء.
فأقبل الشيخ على القس، فقال: عَبَدْتُمْ عيسى بن مريم أنه لا أبَ له؛ فهذا آدم لا أبَ له ولا أم، خلقه الله عزّ وجلّ بيده وأسجدَ له ملائِكَتَهُ، فضُمُوا آدمَ مع عيسى حتى يكون لكُم إلاهانِ اثنان!؟.
¥