تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإن دلَّ هذا على شيءٍ فإنما يدلُّ على خُلوِّ القلبِ من الإخلاص بالنصيحة وابتغاءِ وجه الله بها؛ لأنَّ الأثرَ يدلُّ على المؤثِّر دلالةَ اعتبارٍ وقياسٍ، وإذا كان الإخلاصُ هو الغايةُ المرجوةُ من النصيحةِ فإنَّه يترتب عليه لزومًا أن تكونَ وسيلتُه من شرفِ الغايةِ، فتتجلَّى في القولِ السديدِ المشبع بالحقِّ وصحَّةِ المعلومِ، وفي الأسلوبِ الأقومِ والتعبيرِ الأكرمِ للقيامِ بإسداءِ النصحِ، وإذا خلا القلب من الإخلاص حَلَّ فيه الغِلُّ والغِشُّ، ومن امتلأ قلبه على العلماء والأئمة والدعاة بهاتين الخصلتين فلا ينتظر منه أن يكون عونًا للإسلام وظهيرًا للأمة.

ولا يساورُنا أدنى شكٍّ في أنَّ وضعَ المقالات المحشوة بأقوى العبارات وأفصح التراكيب لتحقيق صورة النصيحةِ على وجهها الإيجابي أو السلبي يجيدها الرفيعُ والوضيعُ، والصادقُ والكاذبُ على حدٍّ سواء، ويعرف سبيلَها أهلُ الإخلاصِ وأهلُ النفاقِ معًا، وقد جاء النصُّ القرآني معبِّرًا عن هذه الحقيقةِ بقوله تعالى: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ? [البقرة: 204 - 205]، فأهل الحقِّ والصدقِ إنما يتسلَّلون إلى قلوبِ الناس بالنصيحةِ على وجهها الصادقِ، تسيل رقةً مصطبغةً بالتخويفِ والترغيبِ وممزوجةً بالإقناعِ، أمَّا غيرُهم فيفتعلون الأساليبَ الماكرةَ وطرق الخبث الخدَّاعة لإثارة الخواطرِ وتهييجِ العواطفِ في وجه كلِّ داعيةٍ مصلحٍ يحمل الإيمان الهادي والحقَّ الجميل بدعوى النصيحة في وجهها الكاذب والمخادع، ولا أدلَّ على ذلك من قوله تعالى في شأن فرعون الوثني المفسد الذي قال عن موسى عليه السلام مستخفًّا بقومه ومغرِّرًا لهم بالنصيحة: ?ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ? [غافر: 26]، إنّ صفاء اللسان وخلوه من الأذى واستقامته على الإنصاف والعدل لهو من صفاء القلب ومحبة الخير للمؤمنين، وصفاء القلب واستقامته على الحق نابع من إيمان العبد وإخلاصه وصدقه، وصدقَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذ يقول: «لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» (12 - أخرجه أحمد في «مسنده»: (3/ 198)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (6/ 822)).

إنَّ من نصَّب نفسه لوظيفةِ نصيحةِ الخلق ودعوةِ الناسِ إلى الخير يجب أن يكون من أقومِهم صفاءً واستقامةً، ومِن أحرصِهم على الخير وأكملِهم على العملِ، وأبعدهم عن التصنُّع والتشبُّع بما لم يُعْطَ، لكن ما يحاكيه زمانُنا عن شبابٍ لا يُنصفون ولا يَعدلون، ويقولون ما لا يفعلون، ويعظون ولا يتَّعِظُونَ، ويُرْشِدُونَ ولا يسْترشِدون وينصحونَ ولا يستنصحون، نسأل الله الحماية والسلامة.

وكما قال أبو العتاهية:

وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقًى

وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ (13 - «تفسير القرطبي»: (1/ 366))

وقال غيرُه:

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى

طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ مَرِيضُ (14 - المصدر السابق: (1/ 367))

فهذا النموذجُ التربوي الذي استقَى نزعاتِه من التعصُّب لآراءِ أنصافِ الرجال، واتبع سبيلَ الهوى لقلَّة الحكمةِ والفقهِ في الدِّين وضَآلةِ الزادِ في معرفةِ قواعدِه ومقاصدِه، فطغَى عليه الجهلُ بمنزلة العلماءِ والدُّعاةِ وسماتهم، فإنَّه لا يمثِّل النموذجَ الحيَّ الذي تشغلُه المسؤوليةُ تجاه نفسه بالتزوّد العلمي الصحيح وإصلاح النفس وتزكيتها بالخُلق القويم والأدب الرفيع أوَّلاً، ذلك لعظم ضرر العلم المجرد عن التربية وإصلاح السلوك وضمن هذا المنظور يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-رحمه الله-: «العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلاّ يوم فارقت التربية الصالحة العلمَ، وكم شقيَ أصحاب العلم المجرّد بالعلم وأشقوا أممهم، والسعادة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير