وهذا دليل على أن الغناء بالمعازف كانت مستنكرة عند السلف، بل ذهب شيخ الإسلام إلى أشد من ذلك عندما قال: وقد عُرِفَ بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي ? لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على إستماع الأبيات الملحنة، مع ضرب بالكف، أو ضرب بالقضيب، أو الدف، كما لم يبح لأأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ماجاء من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأمر، ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاص " (2) 0
أما قول ابن الطاهر القيسراني أن إجماع أهل المدينة على إباحة الغناء فهو مردود، والتحقيق في ذلك يجيب عنه إمام مالك نفسه، وقد سئل رحمه الله: عما يُرَخْصُ فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: " إنما يفعله عندنا الفسَّاق" (3) 0 قال: إذا اشترى جارية فوجدها مُغَنية كان له أن يردها بالعيب 0
= ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وسقيمه كما ينبغي، مثل ذلك في المعقولات والمنظورات، وكذلك في الأذواق والمواجيد والمكاشفات والمخاطبات، فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة فيها حق وباطل، فلا بد من التمييز بين هذا وهذا وجميع ذلك أن ماوافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وماكان عليه أصحابه فهو حق، وما خالف ذلك فهو باطل " 00إنتهى 0
(1) أخرجه النسائي في سننه (2/ 178) وأبو نعيم في (الحلية) 5/ 270 بسند صحيح 0
(2) المجموع: 11/ 565 0
(3) ذكر ابن الجوزي في " تلبيس إبليس " ص 244 بالسند الصحيح عن إسحاق بن عيسى الطباع ـ ثقة من رجال مسلم 0
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا النص عن مالك معروف في كتب أصحاب مالك مشهور وهم أعرف بمذهبه وأضبط ممن ينقل عنه الغلط، وعن أهل المدينة من طائفة بالمشرق لاعلم لها بمذاهب الفقهاء، ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه، ثم يقول: وإنما نبهت على لأن فيما جمعه أبو عبدالرحمن السلمي ومحمد بن طاهر المقدسي في ذلك حكايات وآثاراً يظن من لاخبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق 000 " 0
وقال الإمام الطبري (1): أما مالك بن أنس، فإنه نهى عن الغنى وعن إستماعه 000 وقال: وهو مذهب سائر أهل المدينة 0
ونقل عن الإمام الأوزاعي أنه كان يرى قول من يرخص في الغناء من أهل المدينة من زلات العلماء التي تأمر باجتنابها وينهي الاقتداء بها (2) 0
وقال ابن رجب الحنبلي في نزهة للإسماع في مسألة السماع (3): " ومن جكى شيئا من ذلك عن مالك فقد أبطل " 0
ثم قال بعد نقل كلام الإمام مالك في الغناء: " فتبين بهذا موافقة علماء أهل المدينة المعتبرين لعلماء سائر الأمصار في النهي عن الغناء وذمه، ومنهم القاسم بن محمد وغيره 0
وروى الخَلاَّل بسنده الصحيح عن ابراهيم بن المنذر ـ مدني من شيوخ البخاري ـ وسئل فقيل له: أنتم ترخصون في الغناء؟ فقال " معاذ الله! مايفعل هذا عندنا إلا الفساق والتحقيق في ذلك أنه قد وُجد من أهل المدينة من أفتى بإباحة الغناء مِنْ مَنْ لم يعتد بفتواهم يشير إلى ذلك الإمام الذهبي في ترجمة
(1) نقلا من كتاب تحريم النرد والشطرنج والملاهي للآجري: ص 121 0
(2) نقله ابن رجب في نزهة الأسماع 0
(3) ص 60، 61 0
(يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون) " قلت أهل المدينة يترخصون في الغناء، وهم معروفون بالتسمع فيه، وذكر فيها: أنه كانت جواريه في بيته يضربن بالمعزف " 0
قلت: وقد صادفت هذه الفتوى هوى فساق أهل المدينة فاستحسنوها وغدت سمة من سماتهم، وهو مخالف قول فقهاء المدينة بلا شك، ولهذا قال شيخ الإسلام (1): " لم يكن إباحة الغناء من قول فقهاء المدينة وعلمائها، وإنما كان يضع ذلك فساقهم " 0
أما قوله (ابن حزم) إن نص الآية: ? ومَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ? يبطل إحتجاجهم بها لأن فيها صفة من فعلها كان كافراً بلا خلاف ? إِذْ إِتَخَذَا سَبِيلُُ لله هُزْواً000 ? 0
وقد رد على هذا بعض أهل العلم أن لفظ " لهو " عام يشمل كل باطل وأن الغناء من جملة اللهو فلا تعارض كما قال ابن القيم بين تفسيره بالغناء وبأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر وابن الحارث يحدِّث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن 0
¥