للجواب سؤال: هل يمكن أن يكون لهذين الأثرين جواب غير أنهما يبيحان الاختلاط؟.
نعم، ثمة أجوبة كلها محتملة واردة، فمن ذلك: أنها حادثة قبل الحجاب، أو أنهن محارم، أو خصوصية.
فأما احتمال كونها قبل الحجاب؛ فذلك أن الرجال كانوا يدخلون على النساء بيوتهن، حتى تزوج عليه الصلاة والسلام بزينب، فدخل الناس للطعام، فأطالوا المكث وهم جلوس، وزينب جالسة، والرسول يدخل ويخرج، حتى نزلت الآية في سورة الأحزاب: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي .. "، إلى قوله: "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب". فخرج الرجال وضرب الحجاب. (رواه البخاري)، ومنعوا من الدخول بعد ذلك على النساء، وقال: (إياكم والدخول على النساء).
فالحجاب والنهي عن الدخول ثبتا قولا، وبه تأسس الحكم بالمنع من هذا الاختلاط، وبعد ذلك، فكل ما أتى من خبر فيه: أنه دخل على امرأة أجنبية بيتها. فحمله على ما قبل الحجاب هو المتوجب. إذ النبي لا يخالف إلى ما نهى عنه عامدا قاصدا إلا بعذر شرعي، قال تعالى: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه .. ".
وبهذا الجواب نحفظ للنصوص وقدرها ودلالتها ومعانيها، ونكون قد أجبنا على ما أشكل جوابا معقولا ممكنا غير محال، ومهما أمكن الجواب عن المشكل بما لا يعطل المحكم الثابت، فهو الواجب، لا جواب معطل.
على أن له جوابا آخر هو: الخصوصية. فالنبي معصوم من الفواحش بالاتفاق والإجماع، فافتتانه محال شرعا، فلا ريبة من دخوله على النساء المؤمنات، ثم هو كذلك أب للمؤمنين والمؤمنات.
ومع ذلك، فمهما أمكن حمله على ما قبل الحجاب، فهو الأوجه والأحسن.
وقد ادعى بعضهم أن حادثة أم سليم كانت بعد حجة الوداع، بدليل ذكر الشعر، فزعم هذا أن الشعر كان مما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة في منى، فأخذته أم سليم فخلطته بعرقه في سك. الفتح 11/ 72.
لكن الروايات تفيد أنها كانت تفلي شعره، وهذا حال يمكن معه تساقط بعضه. وهكذا لا يلزم من ذكر الشعر، وقوع القصة بعد حجة الوداع.
بل في حادثة أم حرام ما يدل على أنها كانت قبل الحجاب؛ إذ فيها بشارة بالفتح ناحية البحر، وهذا دليل على امتداد الفتوحات إلى أمكنة بعيدة، ثم وصفهم بالملوك على الأسرة، وصف عزة وقوة. وقد كانت المبشرات في أوائل العهد النبوي، حيث كان النبي ومن معه يحتاجون إليها للتثبيت واليقين. أما بعد السنة الرابعة، فقد تحول الأمر جذريا من الضعف إلى القوة، حتى فتحت سائر جزيرة العرب، فحمل الحادثة على ما بعد حجة والوداع لا وجه؛ فلا حاجة إلى المبشرات، وهم يفتحون البلدان.
وهناك ما يدل على هذا أيضا، فقد قال ابن حجر في الفتح 11/ 78:
" ثم قال: وإذا تقرر هذا، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له. فقال: أرحمها. قتل أخوها معي. يعني حرام بن ملحان، وكان قد قتل يوم بئر معونة".
أما حادثة بئر معونة، فكانت شهر صفر سنة أربع، والحجاب كان في ذي القعدة من السنة نفسها، فبين الحدثين تسعة أشهر، فدخوله بعد حادثة البئر، قبل الحجاب، هو المتعين لقرب المصيبة.
وأما احتمال المحرمية، فإن الرميصاء أم سليم، أخت للغميصاء أم حرام بنت ملحان، وقد قال بعض الحفاظ: "كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة". الفتح 11/ 78، وقد رد الدمياطي هذا فقال: "ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أو من النسب، وكل من أثبت لها خؤولة محرمية؛ لأن أمهاته من النسب واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة". المرجع نفسه.
لكنه هو الذاهل، فإن الزاعمين – بحسب تعبيره - قالوا: إحدى خالاته. ولم يقولوا: أمهاته.
والمقصود: أن أمه آمنة رضعت مع أم سليم، وليس هو الذي رضع، فتكون بذلك خالته من الرضاع.
ورضاعتهما معا متصور، فأخوالها من بني النجار في المدينة، وهي كذلك.
هكذا تدرس هذه النصوص والآثار المعارضة في ظاهرها لحكم أصيل محكم، وما من أثر إلا وله جواب كجواب ما سبق، ثم يبقى الاختلاط غير المقصود العفوي غير المنظم، فذلك مما وسع الله به على عباده، غير مكلف لهم ما لا يطيقون، من دون أن يكون ذريعة للتهاون.
فإن الشارع معه إباحته للاختلاط العفوي، إلا أنه استحب التجافي عنه قدر الإمكان من غير إيجاب، وذلك تبين في مواطن عديدة، منها:
- أمره النساء لزوم حواف الطريق في مشيهن، وترك الوسط للرجال.
- ترغيبهن في الصلاة في بيوتهن، مع نهيه عن منعهن المساجد.
- في إشارته أن يطفن من وراء الرجال.
فحاجات المرأة كحاجات الرجل، وانفصالها التام عن الرجال، بحيث لا تراه ولا يراها ألبتة، يفوت عليه وعليها منافع شتى، ويجلب الحرج والعسر، ويمنع من التيسير، وقواعد الشريعة وأصولها تقوم على اتساع الأمر إذا ضاق، والتيسير إذا حلت المشقة.
وعليه: فقد أجاز لها الخروج والمخالطة بما يحقق حاجاتها، من غير أن يكون ذريعة إلى المنظم أو اختلاط لا حاجة له شرعية.