يا شباب الجزائر هكذا كونوا ... أو لا تكونوا ... (3)
أتمثله كالغصن المروح، مطلولا بأنداء العروبة، مخضوضر اللحا والورق مما امتص منها، أخضر الجلدة و الآثار مما رشح له من أنسابها و أحسابها، كأنما أنبتته رمال الجزيرة، ولوحته شمسها، وسقاه سلسالها العذب، وغذاه نبتها الزكي، فيه مشابه من عدنان تقول إنه من سر هاشم أو سرة مخزوم، ومخايل من قحطان تقول كأنه ذو سكن، في السكن (4)، أو ذو رضاعة، في قضاعة (5) متقلبا في المنجبين والمنجبات، كأنما ولدته خندق (6)، أو نهضت عنه أم الكملة (7)، أو حضنته أخت بني سهم (8)، أو حنكته تُماضر (9) الخنساء لعوبا بأطراف الكلام المشقق، كأنما ولد في مكة، واسترضع في إياد، وربا في مسلنطح البطاح.
أتمثله مجتمع الأشد على طراوة العود، بعيد المستمر على ميعة الشباب، يحمل ما من خير لأنّ يد الإسلام طبعته على الخير، ولا يحمل ما حمل من شر لأن طبيعة الإسلام تأبى عليه الشر- فتح عينيه على نور الدين، فإذا الدنيا كلها في عينيه نيرة مشرقة، وفتح عقله على حقائق الدين، فإذا الدين والكون دال ومدلول عليه، وإذا هو يفتح بدلالة ذاك مغالق هذا، و فتح فكره على عظمة الكون فاهتدى بها إلى عظمة المكون، فإذا كل شيء في الكون جليل، لأنه من أثر يد الله، وإذا كل شيء فيه قليل، لأنه خاضع لجلال الله، ومن هذه النقطة يبدأ سمو النفوس السامية وتعاليها، وتهيؤها للسعادة في الكون، والسيادة على الكون.
أتمثله مجتلى للخلال العربية التي هي بواكير ثمار الفطرة في سلاستها وسلامتها، كأنما هو منحدر لانصبابها وقرارة لانسكابها، وكأنما خيط على وفاء السموأل وحاجب (10)، وأشرج على إيثار كعب وحاتم (11)، وختم على حفاظ جساس والحارث (12)، وأغلق على عزة عوف وعروة (13).
أتمثله مترقرق البشر إذا حدث، متهلل الأسرة إذا حدث، مقصور اللسان عن اللغو، قصير الخطا عن المحارم، حتى إذا امتدت الأيدي إلى وطنه بالتخون، واستطاعت الألسنة على دينه بالزراية والتنقص، وتهافتت الأفهام على تاريخه بالقلب والتزوير، وتسابق الغرباء إلى كرائمه باللص والتدمير، ثار وفار، وجاء بالبرق والرعد، والعاصفة والصاعقة، وملأ الدنيا فعالا، وكان منه ما يكون من الليث إذا ديس عرينه، أو وسم بالهون عرنينه.
أتمثله شديد الغيرة، حديد الطيرة، يغار لبنت جنسه أن تبور، وهو يملك القدرة على إحصانها، ويغار لماء شبابها أن يغور، وهو يستطيع جعله فياضا بالقوة دافقا بالحياة: ويغار على هواه وعواطفه أن تستأثر بها السلع الجليبة، والسحن السليبة، و يغار لعينيه أن تسترقها الوجوه المطرأة، و الأجسام المعراة.
يا شباب الجزائر هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! (14)
أتمثله حنيفا فيه بقايا جاهلية ... يدخرها لميقاتها، ويوزعها على أوقاتها، يرد بها جعل الجاهلين، في زمن تفتقت علومه عن جاهلية ثانية شر من الجاهلية الأولى – وتمخضت عقول أبنائه بوحشية مقتبسة من الغرائز الدنيا للوحش اقتباسا علميا ألبس الإنسان غير لبوسه، ونقله من قيادة الحيوان إلى الانقياد للحيوانية – وأسفرت مدنيته عن جفاف في العقول، وانتكاس في الأذواق، وقوانينه عن نصر للرذيلة وانتهاك للحرمات، وانتهت الحال ببنيه إلى وثنية جديدة في المال وعبادة غالبية للمال، واستعباد لئيم بالمال.
أتمثله معتدل المزاج الخلقي بين الميوعة والجمود، وبين النسك والفتك تتسع نفسه للعقيق، وعمر وابن أبي عتيق، فيصبو، ولا يكبو، كما تتسع للحرم وناسكيه فيصفو، ولا يهفو، وتهزه مفاخرات الفرزدق في المربد، كما تهزه مواعظ الحسن في المعبد.
أتمثله كالدينار يروق منظرا، وكالسيف يروع مخبرا، وكالرمح أمدح ما يوصف به أن يقال ذابل، ولكن ذاك ذبول الاهتزاز، وهذا ذبول الاعتزاز- وكالماء يمرؤ فيكون هناء يروى، ويزعق فيكون عناء يردى- وكالراية بين الجيشين تتساقط حولها المهج وهي قائمة.
أتمثله عف السرائر، عف الظواهر، لو عرضت له الرذيلة في الماء ما شربه، وآثر الموت ظمأ على أن يرد أكدارها، ولو عرضت له في الهواء ما استنشقه، وآثر الموت اختناقا على أن يتنسم أقذارها.
أتمثله جديدا على الدنيا، يرى من شرطها عليه أن يزيد فيها شيئا جديدا، مستفادا فيها يرى من الوفاء لها أن يكون ذلك الجديد مفيدا.
¥