تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[رأيي في الحضارة الغربية ... مصطفى صادق الرافعي]

ـ[العاصمي الجزائري]ــــــــ[07 - 03 - 10, 01:51 م]ـ

جاء في كتاب تحت راية القرآن للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله هذا التحليل الدقيق والغوص العميق في بطون الحضارة الغربية ومضائقها فأجلى حقيقتها بما يكشف عن الزيف الذي تدثّرت به قرون طويلة فما انفك غزلها أن انهار وتبدّت عن وجه كالح تتقاطر من تجاعيدها أنواع الرذائل وأوساخ الفجور ولقد كان في العزم نقل هذا المقال من مدة مضت إلا أن لله في حكمه شؤون فلتتفضّلوها مشكورين ولا تنسوا أخاكم من خالص الدعاء:

رأيي في الحضارة الغربية

علم الله ما فتن المغرورين من شبابنا إلاّ ما أخذهم من هذه الحضارة، فإن لها في زينتها ورونقها أخذة كالسحر، فلا يميزون بين خيرها وشرها، ولا يفرقون بين مبادئها وعواقبها، ثم لا يفتنون منها إلا ما يدعوهم إلى ما يميت ويصدهم عما يحيي وما يحول بينهم وبين قلوبهم، فليس إلا المتابعة والتقليد؛ وسأوجز هذا الرأي ما استطعت، وسأجعل كلامي فيه بلغة النظر: تأتي اللمحة القصيرة على ما تطول العبارة فيه وتمتد.

إن هذه الحضارة لا تظهر أبدا على حقيقتها، إذ كانت حقيقتها لم تجتمع بعد، وقد أنشأها جيل قريب منا وورّثها من بعده وترك معها أخلاقه وطباعه، فما برح الناس يشبهون الناس، وإنما صبغت الحياة ولونت ودخلها التمويه و الزخرف والخطب في هذا يسير، إذ كان اللون الإنساني لا يزال ولكن الشأن حين تتناسخ الأجيال خلقا بعد خلق ويظهر على هذه الأرض الإنسان الميكانيكي الوارث أخلاقه من الآلات أكثر مما يرثها من النفوس، فيومئذ لا يكون القول في الحضارة موضع حسبان وظن كما هو الآن.

وعلى أن الدنيا لا تزال بخير، وعلى أن الحضارة لم تعد من الإنسانية موقع الألوان و التحاسين؛ فقد غمر شرّها وكثر أذاها وأخذ أهلها يتدافعونها ويتذمّمون منها وألزموها الإثم وألحقوا بها الفساد وأبكى عقلاءهم وحكماءهم ما جلبت عليهم من الأخانيث والمضاحيك والمهازل والمفاسد وكبائر الإثم والفواحش، ولم يقم خيرها بشرها ولا غطت مصالحها على مفاسدها.

يحمل الإنسان في نفسه نقيضين، هما عقله وهواه، أو دافعه ووازعه، فإذا أطلقهما معا أفسداه، وإذا قيدهما معا أفسداه كذلك، ولكن تمام الإنسان ونظامه أن يطلق العقل ويحدّ الهوى فيصفى بعضه في بعض فإذا هو قد خلص وتحرر؛ ومادامت الأهواء مقيدة في حدودها فليس في العقل إلا محض الخير. فإذا تركا جميعا لغاياتها طمّ شيء على شيء ورجعت الحياة صراعا حيوانيا، واحتالت العقول لتغيير الوضع الإنساني، وتواضع الناس على الأخلاق البهيمية الفاسدة يدخلونها في آدابهم فلا ينكرونها ولا يردونها ولا يرون الأدب يكون بغيرها أدبا.

فالحضارة الغربية أطلقت العقول تجدّ وتبتدع، أطلقت من ورائها الأهواء تلذ وتستمتع وتشتهي، فضرب الخير بالشر ضربة لم تقتل ولكنها تركت الآثار التي هي سبب القتل، إذ لا تزال تمدّ مدّها حتى تنتهي إلى غاياتها، وذلك هو السر في أنه كلما تقادمت الأزمنة على هذه الحضارة ضجّ أهلها وأحسّوا عللا إجتماعية لم تكن فيهم من قبل، ولو قد عمت الحضارة وتغشي أروبا كلها فلم يبق في تلك الأرض سواد ريفي أقرب إلى الطبيعة وأشكل بها ولا يزال في الحياة على إرثه القديم كالسواد الأعضم الذي يعمر قراها ويملأ صميمها في كلّ مملكة منها - لرأيت أفضع ما ترى العين من بلاد متعادية متنابذة، لما ينازع أهلها من طلب المنافع الشخصية والتكالب عليها و الإستهتار بالشهوات والتناحر على تكاليف حياتهم الثقيلة المملولة المستوخمة، بيد أن ريف أروبا وقراها وما فيها من نزعة الدين ومن معاني الطبيعة البعيدة عن الحضارة ومن الأخلاق السوية الصحيحة التي لم تزغها المدنية- كل ذلك هو الذي يمسك بهذه القارة أن تنهار ويحفظها أن تتحلل، وهو كالبداوة المحضة بإزاء الحضارة في معانيها المستهلكة، فهو بذلك مادة التجديد الأنساني في أروبا، على حين أن هذه المدنية هي مادة التجديد الحيواني بما تصرف غليه الحواس من المتاع واللذة، والحواس روّاد القلب فما أدت إليه أصلحه أو أفسده؛ ولقد قرأت في هذه الأيام رواية يقال إن كاتبها نادرة، فما فرغت منها إلا وأنا أعتقد أن كاتب أروبا هذا هو حيوان أروبا ... إن العقول الناضجة المميزة لا تهب

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير