تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

منها الحكمة الإلهية بقدر ما تهب من الأهواء ولا بعض ذلك، بل هي من قسط من الأفراد الذين لا يبلغون فصلا في الكتاب الإنساني الكبير، أما الشهوات فهي للجنس كله؛ إذ هي غايات طبيعية في تركيب الأجسام؛ ولذا قامت الأديان على سنة حكيمة كافلة للمصلحة. وهي إبعاد الشهوات عن المجتمع وإباحة القليل منها بشروط وقيود، واعتبار درء المفسدة مقدما على جلب المصلحة، وذلك وإن لم يؤت الناس عقلا فإن العقل لا يؤتيهم غيره في آداب الحياة، ولكن الحضارة قامت على إطلاق العقل والهوى، فاستباحت الدين طوائف من الناس وتركته بلا اثر في طوائف أخرى، فكانت تحكيما للشهوات في الخلق وتمكينا لأسبابها في الإجتماع، ومن ثم أخذت تقتلع الأخلاق الإنسانية من أصولها. وما أعرف أكثر مظاهر المدنية إلا أمراضا مسماة بغير أسمائها، و كلها جميلة سائغة مشرقة، لأنها كلها تؤلف حلما مريضا كأحلام الخمر والأفيون .......

أصبح الغربي المتحضر عصبيا ثائرا حساسا يدلف إلى الجنون بخطى بطيئة لكنها سائرة متحركة، وابتلته المدنية بأمراضها التي لم تكن في أسلافه، كالسرطان وغيره، وضربته الشهوات بخدر الحاسة الروحية وخمولها فأصبح يعمل للغرض الأسمى بوسائل معكوسة لا تؤدي إلا إلى الغرض الأسفل، ورجع كأنه غريب عن الطبيعة الخشنة التي لا بد من خشونتها ليبقى قويا بها وقويا فيها وقويا عليها، وتغير من كل ذلك تاريخ عقله وأعصابه. فضعف النبوغ الفني وأصبح النمط العالي منه خاصا بالتاريخ القديم وحده، مع أنه ليس بين القديم وبين الجديد إلا طبيعة هذه الحضارة وأثرها على العقول، أما الإنسان فهو هو، بيد أنه في الحضارة الأولى المتخشنة كان كالدينار الجديد رزينا خشنا، فأصبح في هذه الحضارة الناعمة كالدينار الأملس مسحته الأيدي وأزالت حرشته فهو إلى ضعف وإلى نقص

اتخذت الحضارة المرأة الغربية من وسائلها في ترقيق الطباع وإرهاف الملكات، ومع المرأة ما معها من فنون الدعابة والمغازلة والمفاكهة والإغراء وما تحت هذه من الطباع والأخلاق، فإذا العالم المتحضر في صبغة من الأنوثة متى أخذ الدهر مأخذه فيها استحالت من بعد صبغة من الفجور يشمل هذا العالم.

ويقولون: الجمال والفن ولا يعلمون أنهما إذا استفاضا وعمّا جاء منهما الخبال والهوس، وخرج من اجتماع كل ذلك الانحلال والسقوط، كما وقع في التمدن الروماني والحضارة الغربية.

إني لا أرى أكثر مظاهر هذه الحضارة إلا أسلحة قاتلة تقتل الخير والرحمة في قلوب الناس.

فهي ترفع تكاليف الحياة وتزيد فيها وتعسر آمالها، فتنشيء بذلك الفقر المدقع، وتخرج معه الفوضى والإختلال، وتحدث به الأخلاق السافلة كالتلصص والدماء والخبث والحسد ونحوها ويزيد العالم كل يوم بأسباب كثيرة تبدعها الحضارة؛ فلا تكون الزيادة إلا عبثا وشرا ومضايقة، لأن ما كان يكفي الجماعة ذات العدد أصبح لا يكفي إلا فردا واحدا، ويومئذ لا تستقيم الإنسانية إلا بأن يتغذى بعضها من بعض، فيكثر القتل والإستراق والإباحة، ولكن في ألفاظ وتعابير مدنية ..... والآفة يومئذ أن الإنسانية تكبر والأرض لا تكبر، فتضيق الحياة بأهلها وتزيد مطامعهم ضيقا، فيتقرر عندهم نظام التقتيل ويصبح قانونا إنسانيا عاما، وما أرى هذا القانون سينفذ إلا في الأجنة في بطون أمهاتهن، بحيث يكون في كل اسرة ميزان للموت لا يعطي الدنيا من إحدى كفتيه طفلا إلا بعد أن يجتمع في الكفة الأخرى أربعة موتى أو أقل أو أكثر

ولن يجدوا علاجا من داء الحضارة إلا بالحمية منها، فيوشك إذا هم تنبهوا إلى ذلك أن يمنعوا الناس من بعض فنون هذه الحضارة بقوة القانون، وأن يفرضوا عليهم بعض الجهل فرضا يؤخذون به ليبقى تاريخ العالم متصلا وليجد النوع الإنساني على هذه الأرض من يوجده بصفائه وخصائصه، فإن الأخلاق في تلك الحضارة قائمة على خير قواعدها، إذ لم يكن من سبيل لتغيير البناء الإنساني إلا بتغيير تلك القواعد.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير