وهل هذا إلا دليل على مفارقته الأعيان النجسة، وانقلابه عنها إلى عين أخرى؟!
فلو أعطيت الاستحالة حقها، لحكمت بطهارته!
قال مدعي النجاسة:
المذي مبدأ المني، وقد دل الشرع على نجاسته، حيث أمر بغسل الذكر وما أصابه منه، وإذا كان مبدؤه نجسا فكيف بنهايته؟! ومعلوم أن المبدأ موجود في الحقيقة بالفعل.
قال المُطهَّر:
هذه دعوى لا دليل عليها!
ومن أين لك أن المني مبدأ المذي، وهما حقيقتان مختلفتان في الماهية والصفات والعوارض والرائحة والطبيعة؟!
فدعواك أن المذي مبدأ المني، وأنه مني لم تستحكم طبخه، دعوة مجردة عن دليل نقلي وعقلي وحسي، فلا تكون مقبولة.
ثم لو سلمت لك لم يفدك شيئا ألبته، فإن للمبادي أحكاما تخالفها أحكام الثواني.
فهذا الدم مبدأ اللبن، وحكمها مختلف، بل هذا المني نفسه مبدأ الآدمي، والآدمي طاهر العين، ومبدؤه عندك نجس العين!
فهذا من أظهر ما يفسد دليلك، ويوضح تناقضك، وهذا مما لا حيلة في دفعه، فإن المني لو كان نجس العين لم يطن الآدمي طاهراً، لأن النجاسة عندك لا تطهر بالاستحالة، فلا بد من نقض أحد أصليك.
- فإما أن تقول بطهارة المني.
- أو تقول: النجاسة تطهر بالاستحالة.
- وإما أن تقول: المني نجس، والنجاسة لا تطهر بالاستحالة، ثم تقول مع ذلك بطهارة الآدمي فتتناقض!
ما لنا إلا النكير له!!
قال المنجِّس:
لا ريب أن المني فضله مستحيلة عن الغذاء، يخرج من مخرج البول، فكانت نجسة كهو، ولا يَرِدُ على البصاق والمخاط والدمع والعرق، لأنها لا تخرج من مخرج البول.
قال المُطهًّر:
حكمك بالنجاسة إما أن يكون:
- للاستحالة عن الغذاء.
- أو للخروج من مخرج البول.
- أو لمجموع الأمرين.
فالأول باطل، إذ مجرد استحالة الفضلة عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها، كالدمع، والمخاط، والبصاق.
وإن كان لخروجه من مخرج البول، فهذا إنما يفيدك أنه متنجِّس لنجاسة مجراه، لا أنه نجس العين، كما هو أحد الأقوال فيه، وهو فاسد، فإن المجرى والمقرَّ الباطن لا يُحكم عليه بالنجاسة، وإنما يُحكم بالنجاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخبثه وعينه لا لمجراه ومقره.
وقد عُلِم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين.
والذي يوضح هذا أنا رأينا الفضلات المستحيلة عن الغذاء تنقسم إلى طاهر: كالبصاق، والعرق، والمخاط. ونجس: كالبول، والغائط، فدل على أن جهة الاستحالة غير مقتضية للنجاسة.
ورأينا أن النجاسة دارت مع الخبث وجودا وعدما.
فالبول والغائط ذاتان خبيثتان منتنتان مؤذيتان متميزتان عن سائر فضلات الآدمي بزيادة الخَبث والنتَن والاستقذار، تنفر منهما النفوس، وتنأى عنهما، وتباعدهما عنها أقصى ما يمكن!
ولا كذلك هذه الفضلة الشريفة التي هي مبدأ خيار عباد الله وساداتهم، وهي من أشرف جواهر الإنسان، وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه، ومعها من روح الحياة ما تميزت به عن سائر الفضلات، فقيساها على العّذِرة أفسد قياس في العالم وأبعده عن الصواب!!
والله تعالى أحكم من أن يجعل مَحَالَّ وحيه ورسالاته وقربه، مبادئهم نجسة! فهو اكرم من ذلك.
وأيضا، فإن الله تعالى أخبر عن هذا الماء، وكرر الخبر عنه في القرآن، ووصفه مرة بعد مرة، وأخبر أنه دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، وأنه استودعه في قرار مكين.
ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعَذِرة والبول، ويعيده ويبديه، ويخبر بحفظه في قرار مكين، ويصفه بأحسن صفاته من الدَّفق وغيره، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي. فالمَهين ها هنا ضعيف، ليس هو النجس الخبيث.
وأيضا، فلو كان المني نجسا، وكل نجس خبيث، لما جعله الله مبدأ خلق الطيبين من عباده والطيبات، ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيِّب!
فلقد أبعد النُّجعة من جعل أصول بني آدم كالبول والغائط في الخبث والنجاسة.
والناس إذا سبوا الرجل قالوا: رجل خبيث، وهو خبيث الأصل! فلو كانت أصول الناس نجسة، وكل نجس خبيث، لكان هذا السبب بمنزلة أن يقال: أصله نطفة، أو أصله ماء، ونحو ذلك.
وإن كانوا إنما يريدون بخبث الأصل كون النطفة وضُعت في غير حِلِّها، فذاك خَبَث على خَبَث، ولم يجعل الله في أصول خواص عباده شيئا من الخبث بوجهٍ ما.
قال المنجِّسون:
¥