وكذلك قوله في قصة غسل إحدى بناته - صلى الله عليه وسلم - صحيح البخاري الجنائز (1253)، صحيح مسلم الجنائز (939)، سنن الترمذي الجنائز (990)، سنن أبو داود الجنائز (3145)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1459)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 407). اغسلنها ثلاثا أو خمسا فيه الأمر بالغسل، وأما السنة الفعلية، فإن غسل الميت من السنة الماضية من لدن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، لا نعلم أحدا من المسلمين تركها بلا عذر من احتراق الجثة ونحو ذلك.
وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الأئمة المحققين، كالإمام النووي في المجموع شرح المهذب، والكاساني في بدائع الصانع، وغيرهما من العلماء. وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى كثير عناء في بيان وجوبه.
أما ما ذكر عن ابن رشد من قوله: إن سبب الخلاف - المذكور في مذهب المالكية - هو أن غسل الميت إنما ثبت بالسنة الفعليه دون القولية. فهذا أمر مردود بما تقدم، ومعلوم أن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت بالسنة القولية الصريحة، والفعل الذي تتابع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - بل إن بعض العلماء يذكر أن هذا معلوم من لدن آدم - عليه السلام - إلى يومنا هذا، وهم يغسلون موتاهم، والإجماع على كونه فرض كفاية قد نقله أئمة محققون، ومستنده من السنة ظاهر، فلا عبرة بخلاف من خالف، وإن كنا نسأل الله له العفو، وأن يتجاوز عن خطئه، لكن العلماء غير معصومين، ولا يجوز لأحد أن يتبعهم في زلاتهم إذا ظهر الدليل وقامت الحجة، وهي في مسألتنا هذه بحمد الله - ظاهرة.
وتعلل الكاتب بضيق المكان هذا لا عبرة به؛ لأن من سبقنا من السلف الصالح كانت دورهم أصغر وأضيق من دورنا، ولم يكن ذلك عذرا في ترك هذه الفريضة. وقول الكاتب: كذلك إذا أخذنا في الاعتبار الناحية الصحية ومخاطر انتشار الأوبئة. . . إلى آخر ما ذكر ".
كل هذه مزاعم لا تقاوم ما ثبت في الشرع، فإن المسلمين منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا وهم يغسلون موتاهم، ولم يصبهم ما زعمه الكاتب من الأوبئة ونحوها.
أما تعلقه بالمشقة، فليس كل مشقة معتبرة، بل هناك مشقة غير معتبرة، إذا كان الشارع أمر بالأمر وجب امتثاله، وإن كان فيه نوع مشقة، فإن في جنس التكاليف الشرعية مشقة أيضا، فإن النفس تميل إلى الدعة والسكون، فيشق عليها أن تكلف بالعبادات من صلاة وزكاة وحج وصوم وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر ونحو ذلك، فإذا تعلقنا بالمشقة في كل شيء، فإن الدين ينهدم ولا يبقى لنا منه إلا اسمه.
والله تعالى يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو قدوة لأمته سورة الشرح الآية 7 فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ سورة الشرح الآية 8 وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة - رضي الله عنها - صحيح البخاري الحج (1643)، صحيح مسلم الحج (1211)، سنن الترمذي الحج (934)، سنن النسائي مناسك الحج (2763)، سنن أبو داود المناسك (1778)، سنن ابن ماجه المناسك (3000)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 43)، موطأ مالك الحج (940)، سنن الدارمي المناسك (1904). أجرك على قدر نصبك.
والمشقة التي يذكرها العلماء ويجعلونها سببا للتخفيف ليس هذا موردها، وإنما جر الكاتب إلى هذا قلة فقهه، ودخوله فيما لا يحسنه.
وبما سبق بيانه يظهر بطلان ما اقترحه، وأنه مصادم للشرع لا يجوز الأخذ به ولا العمل به؛ لأن فيه إهانة للمسلم الذي كرمه الله وأعزه بالإسلام، وجعله كسائر الميتات التي يخشى منها من الحيوانات والجيف والكفرة ونحوهم، وهذا محرم باطل بالنص والإجماع.
وقبل أن أختم أحب أن أنبه على كلمة ذكرها الكاتب هي في حقيقتها خطيرة جدا، لكني أحسن الظن بالكاتب، وأنه لم يقصد حقيقتها، وإنما نبهت عليها لئلا ينخدع بظاهرها مسلم، وهي قوله " ومعلوم طبيا أن جثة الميت تحتوي على أنواع من البكتيريا التي أنهت حياته ".
¥