تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(إن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء أخيه، وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته)، فعلى هذا اتفقت كلمتهم وتفرق جمعهم وانعقد عزمهم.

فتأمل هذا العبث والسخف الذي يدرك ذووه - قبل غيرهم - مخالفته للحقيقة، ومصادمته للواقع، وأنه كذب مفترى ومين مختلق.

وانظر أيضا؛ كيف يعمي الهوى صاحبه، ويطبق الحسد على قلبه، فيجعله مجاهرا بالمكابرة، مصرا على الإنكار، مستمسكا بضلاله عاضا عليه بنواجذه، وهذا الهوى والحسد والكبر هو الذي دفعهم إلى الإصرار على التمسك بسبيل "التشويه" عن طريق التنقيب عن الأسماء والأوصاف التي يختلقونها، رجاء أن يقلبوا بها الحقائق للناس فيَضلون ويُضلون، وفساد طويتهم وخراب أفئدتهم وطيش عقولهم؛ هو الذي أداهم إلى صبغ الحق ودعاته بأصباغ تجعل القلوب في زهد عنه ونفرة من سماعه.

وبما أن هذا النهج متفق عليه بين أمم الكفر من قديم الزمان، وبما أن قلوبهم قد انعقدت على التشبث به حتى لكأنهم تواصوا به؛ فلن يكون عصرنا الذي نعيشه - وهو عصر التحضر والرقي والتقدم! - إلا كسابقه من العصور في الاستفادة من هذا الأسلوب، ومن يشابه أبه فما ظلم، ولن يتجاوزا الاعتماد عليه كركيزة أساسية في الصد عن سبيل الله.

بل لأن كان نهج القرون الأولى في ذلك مقتصرا على اختلاق النعوت للأنبياء وأصحابهم، فإن عصر التحضر قد ارتقى - تبعا لرقيه! - ليستتبع في اختراع الأسماء ووضع الأوصاف جزئيات القضايا الشرعية، فلم يعد إنشاء "المصطلحات" المنفرة من أوامر الشرع أو الجاذبة نحو الموبقات؛ قاصرا على عموم الدعاة وعموم الشريعة - كما هو مسلك غالب آبائهم - بل أصبح الأمر يمس كثيرا من أوامر ومنهيات الشريعة التفصيلية، فيُحسن فيها القبيح ويُقبَّح فيها الحسن.

فالربا أصبح؛ فوائد وعوائد، والزنا؛ غدا حرية شخصية، والتهتك والخلاعة والاختلاط؛ أصبحت تقدما وحضارة ومواكبة للعصر، والأغاني الماجنة والمسلسلات الفاضحة والمسرحيات الدنيئة المتهتكة القاتلة للغيرة والمحرضة على الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ كل هذا من الفن والقائمون عليه فنانون ونجوم، والملابس الكاسية العارية؛ إنما هي أزياء وموضات، والخمور بأنواعها وأشكالها؛ هي مشروبات روحية أو كحولية.

ولقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم إذ قال: (ليشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) [رواه أحمد وأبو داود].

وصار الجهاد والإعداد؛ تطرفا وغلوا وإرهابا وعنفا، وتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكام الله؛ انقلب رجعية، وترويج الأفكار الإلحادية والطعن على الله ورسوله وأوليائه؛ من حرية التعبير، والتفلت من التكاليف الشرعية وهدم أصولها وفروعها وتفصيلها وخياطتها وتقديمها حسب تعاريج الجسم العصري؛ أصبح من التنوير والعقلانية والواقعية والتفتح، والأخذ بالنصوص الشرعية والتمسك بها والدعوة إليها والذب عنها؛ صار جمودا وتحجيرا و "أصولية" و "فكرا" سلفيا، وتكلُّم الرويبضة والجهلة في أمور العامة وتشقيقها وتمطيطها وتمييعها والإدلاء بما يشاءون فيها؛ صار تفكيرا، وأهله غدوا مفكرين ومحللين ومتنورين، وإفراغ الألفاظ من معانيها ومسخها وتفسيرها تفسيرا باطنيا مغرضا هداما؛ لُقِّب بالحداثة، وحرب الإسلام علانية وتتبع أهله المستمسكين به والتنكيل بهم وعقد الاتفاقات لتقويضهم ومطاردتهم وبذل الأموال الطائلة بسخاء لاقتفاء آثارهم؛ أصبح حربا للإرهاب والتطرف وحماية للأوطان من خطرهم وصونا لها وللشعوب من شرهم، وبيع الأراضي والتفريط في المقدسات والانبطاح التام أمام الأعداء واللهث الدائم لتلبية رغباتهم والتنافس في تقديم متطلباتهم والاستسلام المخزي لهم؛ كل ذلك صار سلاما ... بل "سلام الشجعان"، والسعي للاعتراف بأحقية المحتل اليهودي بأرض فلسطين واستحقاقه إقامة دولته عليها، مقابل نيل حفنة من التراب تحت أعينهم ومراقبتهم؛ يسمى سلاما عادلا شاملا دائما، والمدافع عن حرماته وأرضه وعرضه والمقدم لنفسه وماله حماية للمقدسات؛ أصبح عدوا للسلام وخارجا عن "الشرعية" الدولية، وتهيئة الظروف لاستقدام عشرات الآلاف من قوات النصارى التي جلبت على أراضي المسلمين بخيلها ورجلها ومكنت لنفسها برا وبحرا وجوا وامتصت خيراتهم وثرواتهم من تحت الأرض ومن فوقها ودكها للشعوب المسلمة و "تجريبها" اليومي لأسلحتها

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير