المتطورة عليهم؛ كل ذلك لا يعدو أن يكون "استعانة" بالقوات "الصديقة" لطرد عدو عات متمرد، وتآلف الدول الكافرة وتكتلها وتكاتفها لأجل قهر الشعوب وإذلالها وإرغامها على الانصياع للركب العالمي والخضوع لإرادات معينة ومخصوصة؛ كل ذلك يقع باسم "الشرعية الدولية"، ومنع الخروج عن قوانين "المجتمع الدولي".
والقائمة في ذلك لا تنتهي، واستقصاؤها يستحيل، فما هذا إلا نتف ونماذج من أسلوب "حرب المصطلحات" الذي أغرق فيه أهل هذا العصر أيما إغراق، واعتنوا به بالغ العناية، سيما مع توفر الظروف الإعلامية التي صيرت العالم كالقرية الواحدة ... بل كالبيت الواحد، حيث لا يكاد يغيب عمن في مشارق الأرض ما يجري في مغاربها ولا العكس.
فالمتمعن فيها ببصيرة، والنبيه الذي لا تنطلي عليه زخارف القول، ولا ينساق وراء بهارج العبارات؛ يدرك إدراكا تاما أن هذا الأسلوب يعد مرتكزا وعمودا فقريا، ووسيلة أساسية معتمدة عندهم، بحيث يندر أن ينالوا بدونها تمام ما يريدون.
فهكذا تقلب الحقائق وتغير المسميات وتنزه القباحات من الأقوال الشنيعة والأفعال الوضيعة، وتشوه الفضائل والمكارم مما أرشد إليه دين الهدى ودعت إليه شريعة الإسلام.
ونحن نقول لهؤلاء كما قال الله سبحانه لعابدي الأصنام - إذ دعوها بأسماء مختلفة وجعلوها بذلك آلهة تعبد من دون الله -: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}.
ونقول لهم في كل ما زعموه وزينوه من الأدناس للناس: {ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}.
فالأسماء لا تغير من المسميات شيئا، والنعوت لا تقلب الحقائق أو تحورها، وإن كنا ندرك خطورة تنصيل المسميات عن أسمائها، وعزل الحقائق عن صفاتها الصادقة.
وهذا هو مكمن الداء ومنبع الأدواء، ففرق كبير بين أن يقدم شيء للناس على أنه استسلام وخنوع وامتهان، وبين أن يروج له على أنه سلام ومصالحة، والبون شاسع بين أن تسمى الفواحش والموبقات المستهجنة بأسمائها الشرعية - كالزنا والربا والخمر - وبين أن تلبس لبوسا تهوِّن من بشاعتها وتقلل من فظاعتها - كالحرية الشخصية أو التقدم أو مواكبة العصر أو المشروبات الروحية أو المروِّحة أو الكحولية – ونحوها، وقس على ذلك ما ذكرنا فسترى العجب العجاب.
وإن مما يزيد الأمر خطورة، ويبين أن هذا الأسلوب قد آتى أكله أو يكاد؛ أن ينساق بعض المسلمين ... بل بعض قيادييهم؛ وراء أعدائهم في الترويج لكثير من المصطلحات والأسماء المستحدثة والمنتقاة من قبل الأعداء بدقة بالغة، ويتلقفوها من غير روية ولا تأن، بل ربما يضيفون عليها كثيرا مما يحسنها ويرغب فيها ويؤكد صحة شرعيتها، فصار كثير منها مألوفا لدى الناس، ركنت إليه نفوسهم، وسكنت عقولهم، واطمأنت قلوبهم، فلا عجب أن تجد نتيجة ذلك أن ينكروا إنكارها، ويحتجوا على محاولة استبدال غيرها بها.
ولا جرم أنهم باستعجالهم في تلقي تلك المصطلحات وأسلمتها؛ قد جنوا على أنفسهم وعلى أمتهم جناية عظيمة من حيث لا يدرون، وبذلك قدموا لأعدائهم خدمة سخية طالما سعوا لأن يجدوا لها مَنفذا ومُنفِّذا.
فمن أمثلة إرادة قلب الحقائق بقلب أسمائها، وتنفير الناس منها بتغيير صفاتها؛ كلمة "الجهاد":
هذه الكلمة التي يدرك كل مسلم علو منزلتها، ويستشعر في قرارة نفسه سمو مكانتها، واستقامة نهج أهلها، ولذا فهي كلمة سواء بينهم، بين الله فضلها وفضل أهليها، وحث على القيام بها ورغب فيها، وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم وتشرف بها أصحابه في حياته وبعد مماته.
وإنما يمدح قادة الإسلام وتظهر مكانتهم بين المسلمين - قديما وحديثا - كلما كانوا أرسخ قدما فيها وأكثر حرصا عليها، وإنما ينالون حب مسلمين لهم ويُعلم صدقهم بينهم إذا كانوا رافعين للوائه، خائضين لغماره، قائمين على أدائه.
¥