أ - الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ بِقَصْدِ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ الَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ ... وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُفْسِدٌ لِلْأَدْيَانِ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ لَلْأَبَدَانِ، وَالثَّالِثَ مُفْسِدٌ لِلْأَمْوَالِ. فَمَنْعُ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ لَاحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَهُوَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ".ا. هـ.
بل ابن عابدين في حاشيته (6/ 401) أشار إلى كف ولي الأمر للمفتي الماجن قائلا: " ... عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَ يَرَى الْحَجْرَ إذْ عَمَّ الضَّرَرُ كَمَا فِي الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ ... ".ا. هـ.
ولذلك من مهام ولي أمر المسلمين تنصيب المفتين المؤهلين، فلا يصدر من ليس أهلا كما هو حال من لمعه الإعلام وأضفوا عليهم ألقابا لم ولن يحلموا بها.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ، فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ، وَمَنْ لَا يَصْلُحُ مَنَعَهُ وَنَهَاهُ وَتَوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إنْ عَادَ، قَالَ: وَطَرِيقُ الْإِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ، وَيَعْتَمِدَ إخْبَارَ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ أَفْتَى وَلَيْسَ بِأَهْلٍ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَوْلُهُ: يَلْزَمُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ وَلَا يَعْلَمُ الطَّرِيقَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ وَهُوَ أَعْمَى، بَلْ أَسْوَأُ حَالًا، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ الطِّبَّ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ؟
إن من أعجب ما سمعتُ وقرأتُ لأحدهم أنه استدل بحديثٍ ثم تناقض قائلا إن العرف عندنا يمنعه، فلا يجوز ذلك لوجود العرف، فعدّ العرف قاضيا على النص، وهذا لم يقل به أحد من أهل العلم، فالنص له قدسيته ومكانته فلا يقدم العُرف عليه.
وقد فصل الإمام الشاطبي في " الموافقات " (2/ 283 – 284) بطلان جعل العرف قاضيا على النص قائلا: " العوائد المستمرة ضربان: أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهةً أو تحريمًا، أو أذن فيها فعلاً وتركًا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي ..
فأما الأول فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات .. وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين بها؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلاً: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه!
أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه! .. أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل هذا لكان نَسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) باطل ".ا. هـ.
ختاما ينبغي أن نحذر ونحذِّر من المتعالمين الذين يحاول الإعلام تلميعهم، وفرضهم بالقوة على المجتمع على حساب العلماء الراسخين، والمرجعية الشرعية التي عينها ولي الأمر.
المتعالمون الذين يلمعهم الإعلام ذكروني بقصة يحكى أن رجلا كان مولعا بحب التعالم، فكان لا يُسأل سؤالا إلا أجاب عنه، ولا يُثار موضوع إلا دلا فيه بدلوه. فقال أصحابه يوما: والله إن هذا الرجل إما عالم حقا أو أنه يستغل جهلنا، فاتفقوا أن يذكر كلٌّ منهم حرفا ويسألوه عن معنى الكلمة الناتجة، فنتجت كلمة " خنفشار ".
فلمّا قدم عليهم قالوا: يا أبا فلان، بحثنا عن معنى الخنفشار فلم نجد جوابا، قال: وصلتم، الخنفشار نبات يزرع في أرض اليمن يدهن به ضرع الناقة فيحبس اللبن، قال الشاعر:
لقد عقدت محبتكم فؤادي * * * كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
وقال صلى الله عليه وسلم .. فهبَّ إليه أصحابه وأسكتوه وقالوا: يا عدوّ نفسه، كذبت على لسان العرب وتريد أن تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
--
عبد الله بن محمد زقيل
[email protected]
http://sabq.org/sabq/user/article?id=151
¥